تاريخها وحكمها، كل ما تريد معرفته عن موقف الشرع من "البشعة"
حالة من الجدل شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية بعد تداول فيديو عن إجبار إحدى الفتيات حول الخضوع “للبشعة” لإثبات براءتها من بعض الاتهامات بسبب الخلافات الأسرية، وهو ما جعل المؤسسات الدينية - الأزهر الشريف ودار الإفتاء" التأكيد على حرمة الخضوع “للبشعة” لإثبات أو نفي التهم.
من جانبها حرصت وزارة الأوقاف على إعداد دراسة مفصلة عبر منصة الأوقاف الرقمية عن “ البشعة” وحرمتها البدائل الشرعية لإثبات الاتهام أو نفيه، وجاءت الدارسة كالتالي:
حقيقة البشعة
البشعة ممارسة تقليدية قديمة تُعد من أخطر أشكال الانتقام الذي يمارسه الأفراد أو الجماعات خارج نطاق القانون والقضاء الشرعي، وهي تتنوع صورها فتشمل القتل تعزيرًا دون سلطان، كما تشمل تلك الممارسة التي تُجبر فيها المتهم على لعق أو وضع لسانه على قطعة حديد محماة بالنار، ليُستدل من آثار الحرق على صدقه أو كذبه.
وهي تعتمد على الخرافة والرهبة النفسية، وتكمن خطورتها في كونها اعتداءً صريحًا على الجسد والكرامة والحرية الشخصية، مما يجعلها من صور التعذيب وإيذاء البدن المنافية لكرامة الإنسان التي كرمها الله تعالى.

تاريخ البشعة
عرفت المجتمعات البشرية عبر التاريخ أشكالًا من الانتقام الفردي والعشائري، والبِشعة بصورتها التي تعتمد على المحنة بالنار ظهرت في البيئات القبلية في شبه جزيرة سيناء وبعض مناطق الصعيد، وكانت تُعد وسيلة لحسم النزاعات في غياب سلطة قانونية قوية.
وتاريخيا، ترتبط البشعة بما عُرف في الحضارات القديمة بـ"اختبار المحنة" Trial by Ordeal الذي كان يُستخدم في أوروبا في العصور الوسطى، حيث يُعرّض المتهم للنار أو الماء لإثبات براءته.
فلما جاء الإسلام، قضى على هذه الظواهر المنافية للعقل والشرع بقوله تعالى: {وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٧٩]. فأحال أمر العقوبات إلى القضاء المنظم، محققًا العدالة والاستقرار.
حكم البشعة في الشرع
اتفق الفقهاء قديمًا وحديثًا على تحريم البشعة بجميع صورها وبطلان ما يترتب عليها، واستندوا في ذلك إلى أصول قطعية:
١. تحريم تعذيب الإنسان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» [مسلم(١٩٥٥)]. وفي الحديث: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» [ابن ماجه (٢٣٤٠)].
٢. تحريم الإكراه على الاعتراف: قال تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ} [الإسراء: ٣٦]. ولا يجوز استيفاء حق أو إثبات جريمة بغير بيّنة شرعية معتبرة.
٣. اختصاص القضاء الشرعي بالفصل في الخصومات: قال صلى الله عليه وسلم: «البيِّنةُ على المدَّعي، واليَمينُ على المدَّعى علَيهِ» وفي لفظ: «واليمينُ على مَن أنكرَ» [الترمذي (١٣٤١) والبيهقي (٢١٢٠١)] والبشعة تُلغي منهج الأدلة الشرعية وتستبدله بطقس بدني مؤذٍ.
٤. حرمة النفس البشرية: قال تعالى: {وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ } [الأنعام: ١٥١].
أما دار الإفتاء المصرية، فتؤكِّد: «البِشْعَة» ممارسة محرَّمة شرعًا ومُنافية لمقاصد الشريعة في صيانة الكرامة الإنسانية
تؤكد دار الإفتاء المصرية أن ما يُعرف بـ«البِشْعَة» – وهي دعوى معرفة البراءة أو الإدانة عبر إلزام المتَّهَم بِلَعْق إناءٍ نُحاسي مُحمّى بالنار حتى الاحمرار – لا أصل لها في الشريعة الإسلامية بحالٍ من الأحوال، وأن التعامل بها محرَّم شرعًا؛ لما تنطوي عليه من إيذاء وتعذيب وإضرار بالإنسان، ولما تشتمل عليه من تخمينات باطلة لا تقوم على أي طريق معتبر لإثبات الحقوق أو نفي التهم، موضحة أن الشريعة الإسلامية رسمت طرقًا واضحة وعادلة لإثبات الحقوق ودفع التُّهَم، تقوم على البَيِّنات الشرعية المعتبرة، وفي مقدمتها ما وَرَد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «البَيِّنةُ على مَنِ ادَّعى، واليَمِينُ على مَن أَنْكَرَ»، وهي قواعد راسخة تَحفظ للناس حقوقهم، وتُقيم ميزان العدل بعيدًا عن الأساليب التي تُعرِّض الإنسان للضرر أو المهانة.

دار الإفتاء: مقاصد الشريعة الإسلامية جاءت لحماية النفس البشرية وصيانة الكرامة الإنسانية
وتشدد دار الإفتاء على أن مقاصد الشريعة الإسلامية جاءت لحماية النفس البشرية وصيانة الكرامة الإنسانية، وأن الإسلام لم يُبح بأي حالٍ من الأحوال ممارسات تقوم على التعذيب أو الامتهان أو الإيذاء، بل رفض جميع الأساليب التي تُنتهك بها حرمة الإنسان تحت دعاوى باطلة أو عادات موروثة لا تستند إلى شرع ولا عقل، مبينة أن البِشْعَة مخالفة صريحة لهذه المقاصد؛ إذ تُهدر كرامة الإنسان وتُعرّضه للأذى البدني والنفسي دون مستند شرعي أو قانوني، محذِّرةً من الانسياق وراء عادات أو موروثات خاطئة تُلبَّس بثوب إثبات الحق وهي في حقيقتها باطلة ومُحرَّمة.
وتشير دار الإفتاء إلى أن دورها الشرعي والوطني يستلزم تعزيز الوعي المجتمعي بخطورة هذه الممارسات وآثارها السلبية، مؤكدةً أن حماية الإنسان من الإضرار به ليست واجبًا شرعيًّا فحسب، بل مسؤولية مجتمعية تُسهم في ترسيخ ثقافة العدالة والرحمة، وتدعيم الثقة في مؤسسات الدولة وطرق التقاضي الشرعية والقانونية.
وتختتم دارُ الإفتاء بيانها بدعوةٍ خالصة إلى صون كرامة الإنسان التي عظَّمها الله، والابتعاد عن كل ممارسة تُعرِّض الناس للظلم أو الإيذاء. وتؤكِّد أن الاحتكام إلى الشريعة والقانون هو السبيل الأمثل لحفظ الحقوق واستقرار المجتمع، وأن رحمة الإسلام وعدله أوسع من أن تُختزل في عادات باطلة أو أساليب تُهين الإنسان. نسأل الله أن يرزقنا البصيرة والرشد، وأن يجعل الرفق والعدل منهجًا يُشيع السكينة والأمان بين الناس، وأن يُلهم المجتمع وعيًا يحفظ للإنسان حقه وكرامته في كل حال.
حكم البشعة في القانون
تتجاوز البشعة كونها جريمة أخلاقية واجتماعية إلى كونها جريمة قانونية يعاقب عليها في جميع التشريعات الوضعية:
١. الاعتداء البدني: يُجرّم قانون العقوبات أي فعل يؤدي إلى إحداث جروح أو حروق، فالمواد (٢٤٢-٢٤٤) من قانون العقوبات تُجرّم كل إيذاء بدني.
٢. تحريم التعذيب: المادة (٥٥) من الدستور المصري تنص على منع التعذيب، والمادة (١٢٦) من قانون العقوبات تجرّم تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف.
٣. افتئات على القضاء: فممارسوا البشعة يرتكبون جريمة: "تحالف على إقامة العدالة ذاتيًّا"، وهي صورة من أخذ الحق باليد.
تطبيقات عملية على تجريمها والعقاب على منفذيها
أحكام قضائية سابقة: أصدرت المحاكم المصرية أحكامًا في قضايا "التعذيب الشعبي" أو "التحكيم الأهلي بالعنف"، وحُكم فيها على المنفذين بالحبس أو السجن.
تدخلات وزارة الداخلية والنيابة العامة: شددت النيابة العامة على منع الممارسات الأهلية خارج إطار القانون.
مواقف المؤسسات الدينية: أكدت دار الإفتاء المصرية مرارًا أن البشعة محرمة شرعًا، وقد صدر عنها بيان واضح نصه: "البِشْعَة ممارسة محرَّمة شرعًا ومُنافية لمقاصد الشريعة في صيانة الكرامة الإنسانية... وهي تخمينات باطلة لا تقوم على أي طريق معتبر".
البدائل الشرعية والقانونية
لقد وضع الإسلام بدائل شرعية تحقق العدالة وتصون الدماء والكرامة:
١. القضاء الرسمي: وهو المنوط به الفصل في التهم والخصومات، بالاعتماد على الأدلة الشرعية والقانونية.
٢. التحكيم العرفي المنضبط: يجوز التحكيم الأهلي برضا الطرفين، بشرط أن يكون مستندًا لأصول شرعية وألا يتضمن إيذاء.
٣. الوساطة المجتمعية: بديل فعال في النزاعات القبلية، ويعتمد على الصلح والتعويض (الدية أو الأروش).
٤. الأدلة الشرعية الصحيحة: إثبات الحقوق في الشرع يتم عبر البينة (شاهدان)، والقرائن المعتبرة، واليمين، والإقرار غير المُكره.
فالبشعة ممارسة تجاوزها الزمن، تخالف الشرع الذي صان الجسد وحرّم الإكراه، وتناقض القانون الذي يجرّم التعذيب والاعتداء على الإنسان.
إن تعزيز دور القضاء الرسمي، وترسيخ بدائل سلمية وعادلة لفضّ المنازعات، هما الطريق لحماية المجتمع وتحقيق العدالة.
وينبغي علينا أن نعمل جميعًا -حكومات ومؤسسات دينية ومجتمعًا مدنيًّا متقدما- على استئصال هذه الظاهرة، بتعزيز الوعي الشرعي، وتفعيل دور القضاء، وتبني ثقافة العفو والمصالحة، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ} [المائدة: ٢].
"البِشعة عرفٌ قبلي باطل يعتمد على النار لكشف الكذب، وهي محرمة شرعًا لمنافاتها أدلة الإثبات وتعذيبها للنفس، ومجرّمة قانونًا باعتبارها إيذاءً جسديًا وافتئاتًا على سلطة القضاء."