فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

عبد العال المليجي يكتب عن مرحلة ما بعد الحرب في السودان: الحرية شرط النهوض الوطني.. العدالة أساس السلم الأهلي.. والنخب السياسية فشلت في إدارة التنوع

عبدالعال المليجي،
عبدالعال المليجي، فيتو

 لم تعُد قضايا السُّودان بعد الحرب مجرّد صراعٍ بين جيشٍ ومليشيا، بل تحوّلت إلى معركةٍ أوسع من أجل إعادة بناءِ الدولة على أسسٍ جديدةٍ قوامُها الحُرِّيَةُ والعَدالَةُ والمُساواةُ. فالحربُ كشفتْ هشاشةَ البُنى السياسية، وانهيارَ المؤسّسات، وتفكّكَ القيمِ الوطنيةِ التي كانت تحمي نسيج المجتمع. ولم يعُد كافيًا أن نرفعَ شعارَ “لا للحرب”، بل ينبغي أن نحدِّد مَن يملكُ الكلمةَ الأخيرة في صياغةِ مستقبلِ البلاد.

٢. الحُرِّيَةُ كمدخلٍ للإصلاحِ السياسيِّ والاجتماعيِّ

الحُرِّيَةُ ليست شعارًا عاطفيًّا، بل هي شرطُ النهوضِ الوطنيّ. فالمواطنُ الذي يملكُ حُرِّيَةَ الرأيِ والتعبيرِ والمشاركةِ السياسية، هو وحده القادرُ على حمايةِ الدولة من الانهيار. ولا يمكنُ بناءُ ديمقراطيّةٍ حقيقيّةٍ في ظلِّ الوصايةِ الحزبيّةِ أو الهيمنةِ الأيديولوجيّة، بل عبرَ دستورٍ دائمٍ يضمنُ التعددَ ويكفلُ الحقوقَ الفرديّةَ والجماعيّةَ دون تمييز.
إنّ الحُرِّيَةَ في السودان يجب أن تبدأَ من الوعي لا من الشعارات، ومن المواطنة لا من الولاءات، لأنّ الإصلاحَ السياسيَّ لا ينجحُ إلا إذا سبقهُ إصلاحٌ في بنيةِ التفكيرِ والثقافةِ والسلوكِ العامّ.

٣. العَدالَةُ أساسُ السِّلمِ الأهليِّ

الحربُ الحاليةُ أعادت فتحَ الجراحِ القديمةِ التي لم تُعالجها اتفاقيّاتُ السلام السابقة. فالعدالةُ لا تتحقّقُ بالانتقام، بل بإرساءِ نظامٍ قضائيٍّ مستقلٍّ يُحاسبُ كلَّ من ارتكبَ جريمةً بحقِّ الوطنِ والمواطن. كما يجبُ إعادةُ الاعتبارِ لضحايا دارفور وكردفان والخرطوم وسائر المناطقِ التي اكتوت بنارِ الحربِ والعنصريّةِ والإقصاء.
ولن يكونَ هناك سلامٌ حقيقيٌّ ما لم تُردَّ المظالمُ إلى أهلِها، وتُستعادُ الثقةُ في مؤسّساتِ الدولةِ، ويشعرُ المواطنُ بأنّ القانونَ يُطبّقُ على الجميعِ دونَ استثناء.

٤. المُساواةُ ومفهومُ المواطنةِ الشّاملة

المُساواةُ ليست فقط بين الرجلِ والمرأةِ أو بين المركزِ والهامش، بل هي مبدأٌ شاملٌ يضمنُ تكافؤَ الفُرصِ في التعليمِ والعملِ والصحّةِ والتنميةِ والخدماتِ العامّة.
ولكي تُبنى دولةُ ما بعد الحرب، لا بدّ من تفكيكِ بنيةِ التمييزِ القبليِّ والجهويِّ، وإعادةِ تعريفِ المواطنةِ علىٰ أساسِ الانتماءِ للوطنِ لا للقبيلةِ أو الطائفةِ أو الحزب.
فالسودانُ الجديدُ الذي نحلمُ به، يجبُ أن يكونَ سودانًا لجميعِ أبنائه، يتساوونَ في الحقوقِ والواجباتِ تحتَ مظلّةِ الدستورِ والقانونِ، لا وفقَ موازينِ السلاحِ أو النفوذِ أو الثروة.

٥. نحوَ عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ

لقد فشلت النُّخبُ السياسيّةُ في إدارةِ التنوعِ السُّودانيِّ، بسبب غيابِ الرؤيةِ الوطنيةِ الجامعةِ، واحتكارِ القرارِ داخلَ الدوائرِ الحزبيةِ الضيّقة. لذلك، فإنّ المرحلةَ القادمةَ تتطلّبُ صياغةَ عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يُعيدُ تعريفَ العلاقةِ بين الدولةِ والمواطن، ويضمنُ المشاركةَ الفاعلةَ لكلِّ المكوّناتِ في صنعِ القرارِ الوطنيّ.
ويجبُ أن يكونَ هذا العقدُ ناتجًا عن حوارٍ قاعديٍّ شاملٍ يبدأُ من القرىٰ والمدنِ والأقاليمِ، لا من العواصمِ ومكاتبِ الساسة. فالديمقراطيّةُ الحقيقيةُ تُبنى من الأسفلِ إلى الأعلى، لا العكس.

٦. ملامحُ دولةِ ما بعد الحربِ

إنّ السودانَ بعدَ الحربِ يحتاجُ إلى دولةٍ مدنيّةٍ فدراليّةٍ إدارية حدمية تقومُ على أربعِ ركائز:
١. سيادةُ القانونِ واستقلالُ القضاء.
٢. إصلاحُ المؤسّساتِ الأمنيةِ والعسكريةِ بحيثُ تُدمَجُ كلُّ القوى المسلّحةِ في جيشٍ وطنيٍّ واحد.
٣. إعادةُ الإعمارِ والتنميةُ المتوازنةُ في جميعِ الأقاليم.
٤. ترسيخُ الثقافةِ المدنيّةِ في التعليمِ والإعلامِ والخطابِ الدينيّ.

وبهذا يمكنُ أن تتحوّلَ مأساةُ الحربِ إلى فرصةٍ تاريخيّةٍ لإعادةِ بناءِ الوطن علىٰ أسسٍ أخلاقيّةٍ وقانونيّةٍ ومؤسسيّةٍ متينة، تُعيدُ الثقةَ للمواطنِ، وتُثبّتُ أركانَ السّلامِ العادلِ والدّائم.

إنّ الطريقَ إلىٰ دولةِ ما بعد الحربِ يبدأُ من الإنسانِ قبلَ النظام، ومن الفكرِ قبلَ السياسة. فلا إصلاحَ بلا وعي، ولا وعيَ بلا حُرِّيَةٍ وعدالةٍ ومساواة.
وما لم يُدرِك السودانيونَ أنّ بناءَ الدولةِ ليسَ مشروعَ نخبةٍ أو حزبٍ، بل مسؤوليةُ أمّةٍ كاملةٍ، فستتكرّرُ الدائرةُ ذاتُها من الفشلِ والانقسام.
لكنّ الأملَ باقٍ، ما دامت في السودانِ عقولٌ تُفكّر، وأيادٍ تبني، وقلوبٌ تؤمنُ أنّ الوطنَ يمكنُ أن يُولَدَ من جديد.