صراع الهوية من فؤاد الأول إلى جمال عبد الناصر.. قانون الإيجار القديم يهدد التراث المعماري والثقافي لـ "أقدم شوارع الإسكندرية"
شارع فؤاد، أو “فؤاد الأول” كما يعرفه كبار الإسكندرانية، ليس مجرد طريق يمتد بطول المدينة، بل هو أرشيف مفتوح على الهواء، يختزن بين مبانيه وحجارته ملامح من العصور البطلمية والرومانية، مرورًا بالاحتلال الإنجليزي، وصولًا إلى ما بعد ثورة يوليو. إنه الشارع الذي شهد أول عرض سينمائي في إفريقيا، وعليه ارتفعت أصوات الشعراء والمفكرين والفنانين. لكنه اليوم يقف على حافة تغييرات قد تمحو جزءًا من روحه.




حكاية الأسماء التي تعبّر عن الزمن
بدأ التاريخ بتسميته الطريق الكانوبي، وهو الطريق الذي شُق في عهد الإسكندر الأكبر، ممتدًا من بوابة رشيد ناحية البحر. ومع تعاقب العصور تحوّل إلى شارع ميناء رشيد، قبل أن يُطلق عليه المصريون اسم شارع فؤاد الأول في عهد الملك فؤاد، تكريمًا للملك وتماشيًا مع موجة تمصير أسماء الشوارع.
بعد ثورة 1952، غُيّر اسمه إلى شارع جمال عبد الناصر، لكن أهل الإسكندرية ظلوا على ولائهم للاسم القديم. ما زال الناس يتحدثون عنه بـ”شارع فؤاد” كأن الزمن توقف عند لقب الملك، وكأن كل تغيير سياسي لا يقوى على محو ذاكرة الناس.






محلات عريقة تنحت في الزمن
من بين ملامح شارع فؤاد التي تصنع سحره، تلك المحلات التي قاومت الزمن وتوارثتها أجيال من التجار. أسماء مثل محل كاستور وأكسل شوارتز ومحل الحلو وجروبى الإسكندرية ظلت حاضرة في وجدان الناس كعلامات للذوق الكلاسيكي، والرُقي الأوروبي، وحلاوة الأيام الخوالي.
لكن هذه المحلات اليوم تواجه خطرًا داهمًا بسبب قانون الإيجار القديم؛ إذ يتردد أصحاب العقارات في تجديد العقود، بينما يبقى التراث مهددًا لأن القانون لا يحمي المباني بما يكفي للحفاظ على هوية المكان. ويُحكى عن أصحاب بعض المحال الذين أُجبروا على المغادرة بعد عقود من العمل، ليحل محلهم مقاهٍ تجارية بلا هوية، أو محال بلا ذاكرة.
السينمات.. شاشات أُطفئت وأخرى تحوّلت
كان شارع فؤاد لسنوات موطنًا لسينمات الإسكندرية ومركزًا للعرض الأول. من بين هذه السينمات:
سينما بلازا التي أُغلقت بعد عقود من العروض، وتحولت واجهتها إلى ذكرى.
تحوّل دور السينما إلى صالات أفراح أو تجارية يعكس سرطانًا صامتًا يلتهم المعالم الثقافية في المدينة، بفعل غياب سياسات لحماية الأماكن ذات القيمة التاريخية. فماذا يعني أن يموت شارع سينمائي؟ إنه يعني أن الذاكرة الجماعية تتبدد، وأن الطفل الذي كان يحلم وهو يشاهد فيلمًا لا يجد اليوم سوى ضوضاء المقاهي.






قانون الإيجار القديم.. سلاح ذو حدين
بين أصحاب العقارات الذين يرون أن القانون يحرمهم من عائدات عادلة، وبين أصحاب المحلات العريقة الذين يرفضون أن يتركوا مواقعهم، يقف شارع فؤاد في المنتصف. القانون القديم – الذي يسمح باستمرار المستأجرين في المحلات والمنازل فيها لأجيال – يتيح استقرارًا للتراث، لكنه يهدد بمعارك قانونية قد تنتهي ببيوت مغلقة، وواجهات تخلع أسماءها فجأة.
اليوم، هناك محال لم تُغيّر واجهاتها منذ 70 عامًا مهددة بالإغلاق، بعد انتهاء عقود أو لجوء بعض الملاك إلى الحيل لإخلاء المستأجرين. وما يزيد من المرارة أن المباني التي تُهدَم لا تُبنى على طراز مشابه؛ بل تُستبدل بمراكز تجارية أو أبراج شاهقة، بلا انسجام مع شخصية الشارع.
هوية تُطمس.. وشارع يصارع الزمن
لن تجد شارعًا في مصر يحمل روحًا أوروبية شرقية كما يفعل شارع فؤاد. هو خريطة لجغرافيا مشرقة وصامتة.. شرفات مزخرفة، أعمدة رخامية، وممرات ضيقة لجانب الحدائق المترامية. كل زاوية مرآة لطبقة من الزمن. لكن غياب التشريعات التي تحمي التراث المعماري والثقافي يجعل ذلك الإرث عرضة للتشويه أو المحو.
هذا الشارع بحاجة إلى أكثر من حملة تجميل.. بحاجة إلى حماية قانونية للهوية، تأسيس سجل رسمي للمحلات العريقة التي يجب أن تظل، وإعادة الاعتبار لمبانيه وسينماته. ربما حينها سيستمر شارع فؤاد في حمل ذاكرة الإسكندرية، ويظل شاهدًا على تاريخها، بدلًا من أن يصير مجرد عنوان على خريطة عقارية جديدة.




في النهاية… ليس كل تغيير تقدمًا
قد تُغيّر أسماء الشوارع، وقد تتبدّل أنشطتها، لكن ما يجب أن يبقى هو الروح التي ولدت يوم شُق الطريق في مدينة الإسكندر. الحفاظ على شارع فؤاد ليس ترفًا ثقافيًا، بل هو واجب تجاه الذاكرة.. تجاه الناس.. وتجاه المدينة التي تستحق ألا تُمحى حكاياتها بسرعة.