التصوف المسكوت عنه.. جمعة: كل ما خالف الكتاب والسنة ليس من الصوفية في شيء.. الجندي: مراقبة دائمة وحضور لا يغيب.. وأسامة قابيل: الطقوس المنحرفة لا تمثل المذهب
منذ فجر الإسلام، ظلّ التصوف صفحةً مضيئة في تاريخ الروح الإنسانية، ووجهًا خفيًا من وجوه الإيمان التي لا تُرى بالعين، بل تُحسّ بالقلب، فهو العلم الذي يسعى إلى تحرير الإنسان من أَسر الأنا، وتهذيب النفس لتتسامى فوق الغرائز والشهوات، حتى تبلغ مقام الإحسان الذي هو ذروة الدين وجوهره، غير أن هذا المعنى السامي لم يَسْلَم عبر العصور من التشويه والادعاء، فاختلطت أنواره بدخان المظاهر، وتسلّل إلى ساحاته من حوّلوا الذكر إلى صخب، والولاية إلى تجارة، والزهد إلى مظهرٍ يُخالف جوهر الطريق، وفي خضم هذا الاضطراب، تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة التصوف من جديد، قراءة ترده إلى أصوله النقية التي انبثقت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بوصفه منهجًا للتربية الروحية، لا ممارسات طقوسية، وطريقًا للإصلاح الأخلاقي، لا للانعزال أو الخرافة، خاصة بعد الجدل الذي أثير مؤخرا بشأن الاحتفالات الصاخبة لمولد سيدي أحد البدوي ومولد إبراهيم الدسوقي، وما صاحبها من تراشقات وسجالات وتلاسنات على وسائل الإعلام ومنصات الفضاء الإلكتروني.
“فيتو” بدورها تفتح نقاشات مع مجموعة من العلماء في محاولة لاستكشاف ملامح التصوف الحقيقي كما أراده الإسلام، من خلال شهادات كبار علماء الأزهر الشريف، الذين يفكّكون المفاهيم المغلوطة، ويفرقون بين الزهد الذي يربي، والغلو الذي يضل، وبين الشيخ المربي، والدَّعي الذي اتخذ الدين وسيلة للشهرة أو النفوذ، ليبقى السؤال حاضرًا: هل نعيد للتصوف معناه الرباني، أم نتركه رهينة لمن بدّلوا النور دخانًا، والذكر صخبًا؟
منهج التربية الروحية والسلوكية
في البداية يقول الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف شيخ الطريقة "الصدقية الشاذلية": إن التصوف هو منهج التربية الروحية والسلوكية الذي يرقى به المسلم إلى مرتبة الإحسان، التي عرَّفها النبي ﷺ: «أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فالتصوف برنامج تربوي يهتم بتطهير النفس من كل أمراضها التي تحجب الإنسان عن الله عز وجل، وتقويم انحرافاته النفسية والسلوكية فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع الله، ومع الآخر، ومع الذات، والطريقة الصوفية هي المدرسة التي يتم فيها ذلك التطهير النفسي والتقويم السلوكي، والشيخ هو القيِّم أو الأستاذ الذي يقوم بذلك مع الطالب أو المريد.
وأشار إلى أن النفس البشرية بطبيعتها يتراكم بداخلها مجموعة من الأمراض مثل: الكِبر، والعُجب، والغرور، والأنانية، والبخل، والغضب، والرياء، والانتقام، والكره، والحقد، والخداع، والطمع، والجشع، وقال تعالى حكايةً عن امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ ومن أجل ذلك فطن أسلافنا الأوائل إلى ضرورة تربية النفس، وتخليصها من أمراضها؛ لتتوافق مع المجتمع وتفلح في السير إلى ربها، مضيفا: الطريقة الصوفية ينبغي أن تتصف بأمور، منها التمسك بالكتاب والسنة؛ إذ إن الطريقة الصوفية هي منهج الكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فليس من الطريقة، بل إن الطريقة ترفضه وتنهى عنه، كما لا تعد الطريقة تعاليم منفصلة عن تعاليم الشريعة، بل هي جوهرها، لافتا إلى أن للتصوف ثلاثة مظاهر رئيسية حث عليها القرآن الكريم، وهي أولًا: الاهتمام بالنفس، ومراقبتها، وتنقيتها من الخبيث، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، ثانيًا: كثرة ذكر الله عز وجل، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}، وقال النبي ﷺ: «ولا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله»، وثالثًا: الزهد في الدنيا، وعدم التعلق بها، والرغبة في الآخرة، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۚ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
أما عن الشيخ الذي يُلقِّن المريدين الأذكار، ويعاونهم على تطهير نفوسهم من الخبث، وشفاء قلوبهم من الأمراض، أوضح " جمعة" أنه يمثابة القيِّم أو الأستاذ يرى منهجًا معينًا هو الأكثر تناسبًا مع هذا المريد أو ذاك، وكان من هدي النبي ﷺ أن ينصح كل إنسان بما يقربه إلى الله وفقًا لتركيبته النفسية المختلفة؛ فيأتيه رجل فيقول: يا رسول الله، أخبرني عن شيء يبعدني عن غضب الله، فيقول النبي ﷺ: «لا تغضب»، ويأتيه آخر يقول: أخبرني عن شيء أتشبث به، فيقول له النبي ﷺ: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله»، موضحًا ان هذا لا يعني ترك شيء من العبادة، وإنما هناك عبادة معينة يكثر منها السالك إلى الله توصله إلى الله عز وجل، وعلى أساسها تتعدد أبواب الجنة، ولكن في النهاية تتعدد المداخل والجنة واحدة، يقول النبي ﷺ: «لكل أهل عمل باب من أبواب الجنة يُدعون بذلك العمل، ولأهل الصيام باب يُدعون منه يقال له: الريان»، فكذلك الطرق تعد المداخل والأساليب وفقًا للشيخ والمريد نفسه؛ فمنهم من يهتم بالصيام، ومنهم من يهتم بالقرآن أكثر، ولا يهمل الصيام لتعدد أساليب التربية والعلاج، واختلاف المناهج الموصلة، ولكنها تتحد في المقصد، فـ«الله هو مقصود الكل».
ونوه شيخ الطريقة "الصدقية الشاذلية" أن ذلك الكلام لا ينطبق على أغلب المدعين للتصوف، الذين يشوهون صورته، ممن لا دين لهم ولا صلاح، الذين يقومون يرقصون في الموالد، ويعملون أعمال المجاذيب المخرفين؛ فهذا كله ليس من التصوف ولا من الطرق الصوفية في شيء، وإن التصوف الذي ندعو إليه لا علاقة له بما يراه الناس من مظاهر سلبية سيئة، ولا يجوز لنا أن نعرف التصوف ونحكم عليه من بعض الجهلة المدعين، وإنما نسأل العلماء الذين يمتدحون التصوف حتى نفهم سبب مدحهم له.
ورد عضو هيئة كبار العلماء على من يقول: لماذا لا نتعلم آداب السلوك وتطهير النفس من القرآن والسنة مباشرة؟، قائلا:" هذا كلام ظاهره الرحمة، وباطنه من قِبَلِه العذاب؛ لأننا ما تعلمنا أركان الصلاة وسننها ومكروهاتها بقراءة القرآن والسنة، وإنما تعلمنا ذلك من علم يُقال له: علم الفقه، صنفه الفقهاء واستنبطوا كل تلك الأحكام من القرآن والسنة، فماذا لو خرج علينا من يقول: نتعلم الفقه وأحكام الدين من الكتاب والسنة مباشرة؟ ولن تجد عالمًا واحدًا تعلم الفقه من الكتاب والسنة مباشرة، وكذلك هناك أشياء لم تذكر في القرآن والسنة، ولابد من تعلمها على الشيخ ومشافهته، ولا يصلح فيها الاكتفاء بالكتاب، كعلم التجويد، بل والالتزام بالمصطلحات الخاصة به؛ فيقولون مثلًا: «المد اللازم ست حركات»، فمن الذي جعل ذلك المد لازمًا؟ وما دليل ذلك؟ ومن ألزمه؟! إنهم علماء هذا الفن، كذلك علم التصوف: علم وضعه علماء التصوف من أيام الجنيد رضي الله عنه في القرن الرابع إلى يومنا هذا، ولما فسد الزمان وفسدت الأخلاق؛ فسدت بعض الطرق الصوفية، وتعلقوا بالمظاهر المخالفة لدين الله، فتوهم الناس أن هذا هو التصوف والله عز وجل سيدافع عن التصوف وأهله وسيحميهم بقدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.
التصوف الحقيقي
بدوره قال الدكتور أسامة فخري الجندي، من علماء وزارة الأوقاف: إن الإمام الجنيد قدّم أحد أعمق تعريفات التصوف في عبارة موجزة حين قال: «التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة»، وهذه العبارة على قِصرها تحمل معاني عظيمة تحتاج إلى تدبرٍ خاصة وأن معنى أن تكون مع الله بلا علاقة، هو أن تستصحب معية الله في كل أحوالك، فتستشعر أن الله يراك ويسمعك ويعلم سرك وجهرك، أي أن التصوف يقوم على المراقبة، ثم قال: "من راقب الله في خواطره، حفظ الله له جوارحه من الوقوع في المعاصي"، مشيرًا إلى أن المراقبة لا تقتصر على الأعمال الظاهرة فقط، بل تشمل حتى الخواطر التي لا يُحاسب عليها الإنسان، فمتى راقب العبد ربه في خطرات قلبه صان الله عليه ظاهره من الذنب، وهذا المعنى يرتبط بثلاث حالات يتقلب فيها الإنسان دائمًا، وهي: الإدراك، والأثر، والتصرف، فالله تعالى جعل للإنسان وسائل إدراك، كالعين والأذن والأنف واللسان وسائر الجوارح، وهذه الوسائل تستقبل المعلومات من العالم الخارجي، فتتحول إلى أثر داخلي في القلب والعقل، ثم ينتج عنها تصرف وسلوك.
وأضاف “الجندي” لـ “فيتو” أن وسائل الإدراك تستقبل المعلومات من الخارج، ثم تُخزَّن في صورة أثر، كأن يرى الإنسان شيئًا فيُقبل عليه أو يُعرض عنه، ثم ينبني على ذلك تصرف عملي نابع من الأثر الذي استقر في نفسه، وهكذا، فإن الفكر والسلوك كلاهما مرتبط بما أدركه الإنسان وأثر في وجدانه، موضحًا: "حين تستحضر الله في قلبك قبل استقبال المعلومات من الخارج، فإنك لا ترى ولا تسمع ولا تتأثر إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى، لأنك جعلت معية الله هي الضابط لكل إدراكٍ ولكل تصرفٍ ولكل سلوك"، مؤكدًا أن التصوف بمعناه الحقيقي هو أن يعيش الإنسان في حضورٍ دائمٍ مع الله، مراقبًا له في خواطره قبل جوارحه، فيكون مع الله بلا غفلة، وبلا تعلقٍ بغيره، مستسلمًا لإرادته، منسجمًا مع فطرته، مؤمنًا بأن كل حركة وسكون في حياته يجب أن تكون موافقةً لمراد الله سبحانه وتعالى.
ليس طقوسًا مبتدعة
بدوره قال الدكتور أحمد الرخ، الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف: إن التصوف هو منهج حياة يسير عليه المسلم، فكما تشتمل الشريعة على العقائد والعبادات، فإنها تشتمل كذلك على الأخلاق والتزكية، ومن ثم فالتصوف في أصله منهج أصيل قائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس كما يشاع أنه طقوس ابتدعها بعض الناس، وأن كلمة "التصوف" قد تكون مصطلحًا معاصرًا لم يكن مستخدمًا في صدر الإسلام، لكن هذا لا يعني رفضها، لأن العبرة ليست بالألفاظ بل بالمقاصد والمعاني، فالمهم هو المضمون الذي يقوم على الإحسان والمراقبة والمشاهدة، كما ورد في حديث جبريل حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وهذه هي منزلة التصوف الحقيقية، وأشار إلى أن الإمام الجنيد، أحد كبار أئمة التصوف، عرف منهج الصوفية بأنه قائم على مراقبة الله والبعد عن المعاصي، إذ قال حين سئل: بم أستعين على غض البصر؟ قال: «بعلمك أن نظر الله إليك أسبق ممن تنظر إليه»، فالتصوف إذن ليس مظاهر أو احتفالات، بل هو سلوك روحي وأخلاقي يقوم على استحضار نظر الله في كل فعل وحركة.
وبيّن الدكتور الرخ أن بعض التصرفات الخاطئة التي تصدر في بعض الموالد أو المناسبات لا يجوز تعميمها على التصوف كله، كما أن التسرع في اتهام الناس بالشرك أو الكفر أمر خطير لا يرضاه الله ولا رسوله، مستدلًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»، ونرى الإمام ابن حجر العسقلاني ذكر في فتح الباري عشرة معان لمفهوم الكفر، ولم يقل أحد من أهل السنة بالتكفير العام المخرج من الملة إلا الخوارج، كما أن علماء التصوف أنفسهم أكدوا أن طريقهم قائم على العلم بالشريعة، فقال الإمام الجنيد: «علمنا هذا قائم على الكتاب والسنة، فمن لم يقرأ الكتاب ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يُقتدى به»، مؤكدًا أن التصوف الحق ليس خرافة ولا بدعة، بل هو ثمرة من ثمار الإيمان، يقوم على ذكر الله، ومراقبته، ومجاهدة النفس، والبعد عن الذنوب والمعاصي، وأنه جوهر الأخلاق الإسلامية التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها، مصداقًا لقوله الشريف: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
الطقوس المنحرفة لا تمتّ للتصوف الحقيقي بصلة
قال الدكتور أسامة قابيل، من علماء الأزهر الشريف، وكيل المشيخة العامة للطرق الصوفية: إنَّ التصوف الصحيح هو أحد أعمدة الدين الثلاثة، فالإسلام يقوم على العقيدة والشريعة والأخلاق، والأخلاق هي مقام الإحسان الذي قال فيه النبي ﷺ: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، والتصوف هو الوجه العملي للإحسان، إذ يهذب القلب ويصلح النفس ويجعل المسلم يعيش مع الله بصدق ووعي وإخلاص، كما أن التصوف الذي نشأ على يد العلماء الربانيين، لم يكن يومًا خروجًا عن الشرع، بل هو التزام بالشريعة في صورتها الأسمى، حيث يربي الإنسان على التقوى والرحمة والصدق، ويبعث فيه روح العمل والعبادة.
وانتقد الدكتور أسامة قابيل بعض المظاهر التي تُسيء إلى التصوف وتشوه صورته، مثل الاستغاثة بالأولياء وطلب الحاجات منهم بدل التوجّه إلى الله، أو الاعتقاد بأنهم يملكون الضر والنفع، أو الطواف بالأضرحة كما يطاف بالكعبة، أو التبرك بطرق غير مشروعة، أو ممارسة طقوس لا أصل لها في الدين كرقص أو صيحات تخرج عن الذكر المشروع، مؤكدًا أن هذه الأفعال مرفوضة شرعًا ولا تمت للتصوف النقي بصلة، بل هي من مظاهر الجهل والغلوّ التي يجب التنبيه عليها بالحكمة والعلم، موضحًا «التصوف الصحيح لا يعرف غلوًّا ولا خرافة، بل هو علم تزكية وسلوك إلى الله، يعيد للإنسان توازنه بين ظاهر العبادة وباطنها، ومن أراد أن ينتسب إلى طريق الأولياء فعليه أن يلتزم بالقرآن والسنة، فبهما يكون الإحسان الذي هو روح الدين وغاية التصوف».
التصوف الأرستقراطي
بدوره رد الدكتور محمد إبراهيم العشماوي، أستاذ الحديث الشريف وعلومه بجامعة الأزهر الشريف على مسالة ارتباط بعض رجال الأعمال ووجهاء المجتمع ببعض المشايخ واعتقادهم بوجود كرامات لدى هؤلا المشايخ ومن ثم يلجأون إليهم في بعض المواقف، مؤضحًا أن هذا الأمر يسمى “التصوف الأروستقراطي”، الذي لا يتبع الشيخ فيه إلا الكبار والوجهاء من الطبقة الأروستقراطية في المجتمع، ومظاهر الدنيا حاضرة فيه بقوة، ويقوم غالبا على الروحانيات الشيطانية التي يميل إليها الكبار والوجهاء، والتي يهيمن فيها الشيخ على المريد هيمنة تامة، والشيخ في هذا النوع من التصوف أقرب ما يكون إلى أهل الدنيا في العيش المرفه، والمظهر البراق، والثراء الفاحش، لكن في زي شيخ!
وأشار إلى سبب ميل الكبار والوجهاء إلى هذا النوع من التصوف؛ ثلاثة أمور الأول أنه لا يوجد فيه أي تكاليف شرعية، سوى أشياء يسيرة، كذكر معين يقوله، وغالبا ما يكون هذا الذكر لأمر دنيوي، كدفع ضر، وجلب نفع، من نحو ترقية وظيفية، أو تولي منصب كبير، أو تزويج فتاة تأخر زواجها، أو التغلب على كيد عدو!، والسبب الثاني أن أجواء هذا النوع من التصوف دنيوية خالصة، وهي تناسب الأجواء التي يعيشها الكبراء والوجهاء، مع لمسة دينية خفيفة! فهي تعتمد على المراسم الشكلية، مثل الحفلات والولائم المبالَغ فيها، والتي تقام - في بعض المناسبات الدينية - أحيانا في بعض الفنادق الكبرى، ويحضرها المشاهير في كل فن!.
والسبب الثالث هو أن هذا النوع من التصوف قائم على المحبة والعشق والهوى والجمال والنور، وهي مفردات يكثر تردادها بين أتباع هذا النوع من التصوف الأروستقراطي، اتباعا لشيخهم، وهي مفردات فلسفية لا معاني تحتها، غير أن القصد منها استمالة النفوس بالمعاني التي تعشقها، والبعد عن المعاني التي لا تحبها، كالتكليف، والتخويف، موضحًا انه بعرض هذا النوع من التصوف على تاريخ التصوف النظيف، وقواعد الشرع الشريف؛ نجد أنه لا يمثل التصوف في قليل ولا كثير، وأنه أبعد ما يكون عن التصوف، ومجاف لحقيقته تمام المجافاة، وأنه لا ينتج إلا نفوسا ضعيفة، طرية، شهوانية، تميل مع الهوى حيث مال، وتتحلل من قيود الشريعة، وتتحايل عليها! وهو مرتع وخيم من مراتع إبليس، يقود الراتعين فيه إلى خزي الدنيا، وعذاب الآخرة!