معمل الترميم في متحف البريد المصري، حين يتحول الحفاظ على التراث إلى فن يدرس (صور)
في قلب متحف البريد المصري، لا تقتصر الحكاية على الطوابع النادرة أو الخطابات القديمة التي عبرت الزمن، بل تمتد إلى ركن هادئ ينبض بالحياة والإبداع معمل الترميم. هناك، يتحول التراث إلى مادة حية تُرمم وتُصان وتُعلَّم، في مزيج بين العلم والفن والحِرفية الدقيقة.


داخل المعمل حيث تعود القطع إلى الحياة
عند دخولك إلى معمل الترميم، أول ما يلفت انتباهك هو الدقة المتناهية في العمل. على الطاولات تنتشر أوراق وصور وتماثيل صغيرة، بعضها في مراحل مختلفة من الإصلاح، وأدوات الترميم مصطفة بعناية: فرش دقيقة، ألوان، مواد لاصقة، قوالب سيليكون، وجبس أبيض ينتظر أن يُسكب في شكل جديد.
يقول أحد القائمين على المعمل إن الهدف الأساسي ليس فقط إصلاح المقتنيات المتضررة، بل “الحفاظ على روحها الأصلية”، بحيث تظل تحمل نفس الملامح التي صنعتها يد الفنان أو الحرفي الأول.


ورش مفتوحة للجمهور المعرفة للجميع
بعيدًا عن الصورة التقليدية للمعامل المغلقة، معمل الترميم بمتحف البريد المصري يفتح أبوابه للزوار والمتدربين من مختلف الفئات. الفكرة ببساطة: أن يتعلم الجمهور كيف يعتني بمقتنياته الشخصية بنفسه، سواء كانت وثائق ورقية قديمة، أو تماثيل زخرفية، أو حتى صور عائلية تحتاج إلى ترميم دقيق.
تتنوع الورش ما بين يومين وأسبوع كامل، بحسب ما يرغب المتدرب في تعلمه.
فمن يرغب في فهم أساسيات الحفاظ على الورق والوثائق يمكنه الالتحاق بدورة قصيرة، بينما من يود اكتساب خبرة في صناعة التماثيل وترميمها يحتاج إلى مدة أطول تشمل مراحل العمل المختلفة.
من السيليكون إلى الجبس صناعة التماثيل تبدأ هنا
من أبرز ما تقدمه الورش داخل المعمل هو التعرف على مراحل صناعة التماثيل. تبدأ الرحلة بتجهيز قالب السيليكون الذي يتم سكبه حول نموذج أصلي ليأخذ شكله تمامًا، وبعد أن يجف، يُصب فيه الجبس أو مادة أخرى حسب نوع التمثال المطلوب.
بعدها تأتي مرحلة التلوين اليدوي، حيث يُعيد المتدربون الحياة للقطع بلمساتهم الخاصة. يستخدم البعض الألوان الزيتية، وآخرون الألوان المائية أو الأكريليك، بحسب طبيعة المادة وخامة التمثال. النتيجة في النهاية عمل فني متقن يجمع بين الأصالة والتجريب.
الفن في التفاصيل بين الرسم والطباعة
إلى جانب التماثيل، يضم المعمل ورشًا لتصميم الأشكال والزخارف، بعضها يتم رسمه يدويًّا بدقة على الورق أو الجبس، والبعض الآخر يُطبع باستخدام تقنيات حديثة. هذه الورش تتيح للمشاركين تجربة فريدة تجمع بين الحس الفني والمهارة اليدوية، مع الحفاظ على التراث الحرفي الذي اشتهرت به مصر منذ قرون.
يُشجع القائمون على المعمل المشاركين على ابتكار تصميماتهم الخاصة، وعدم الاكتفاء بالتقليد، لتصبح الورشة مساحة مفتوحة للتجريب والإبداع، أكثر منها مجرد تدريب تقني.
ورش لكل الأعمار من الأطفال إلى كبار السن
ما يميز معمل الترميم في متحف البريد أنه لا يقتصر على فئة محددة، بل يستقبل الأطفال وكبار السن والشباب على حد سواء.
الأطفال يجدون في الورش تجربة ممتعة تدمج اللعب بالتعلم، فيتعرفون على فكرة العناية بالأشياء القديمة بدلًا من التخلص منها، ويكتشفون كيف يمكن أن يصنعوا تماثيلهم الصغيرة بأيديهم.
أما كبار السن، فالكثير منهم يلتحقون بالدورات بدافع الحنين للماضي، أو رغبة في تعلم مهارة جديدة تُبقيهم على تواصل مع الفن والتراث.
وتقول إحدى المشرفات إن أكثر ما يسعدهم هو رؤية “أجيال مختلفة تعمل جنبًا إلى جنب، يتبادلون الخبرة والشغف داخل مساحة واحدة”.
متحف يتنفس الحياة
يُعيد معمل الترميم تعريف فكرة المتحف ذاته — فهو ليس مجرد مكان للعرض، بل مؤسسة تعليمية وثقافية تفاعلية.
يخرج الزائر بعد يوم واحد داخل المعمل وهو يحمل شيئًا جديدًا: قطعة من التاريخ صنعها بيده، ومعرفة بكيفية الحفاظ على مقتنياته للأجيال القادمة.
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا، يظل هذا المعمل شاهدًا على قيمة العمل اليدوي والصبر والحفاظ على الجمال، مؤكدًا أن حماية التراث لا تتم فقط داخل المتاحف، بل في قلوب من يتعلمون كيف يصونونه.