فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

الفيضان القاتل.. مزارعو البحيرة يغرقون في المياه والديون والخسائر تتجاوز 120 فدانا.. وحميدة يصرخ: الفراولة باظت وعجولي ماتت وبيتي اتخرب

فيضان النيل
فيضان النيل

لم يقتصر تأثير فيضان النيل على إغراق عشرات الأفدنة من المحاصيل الزراعية فحسب كالأرز والذرة والفراولة فى محافظة البحيرة، بل تجاوز ذلك ليحطم آمال العديد من الأسر فى مستقبل أفضل، فقد تسبب الفيضان فى تدمير منازل كانت تنتظر جنى الأرباح لسداد ديونها، مما ضاعف الأعباء المادية على كاهل الأسر المعيلة لأطفالها.

كما حرم الفيضان العمال الزراعيين البسطاء، بمن فيهم سيدات يعمل أسرهن عبر عملهن فى جمع المحصول، ليواجهن الآن دوامة القلق بشأن كيفية الإنفاق على أطفالهن، إذ كان هذا مصدر دخلهن الوحيد.

 فيضان النيل تحول إلى “فيضان مآسٍ” فى البحيرة، وتعرض فيتو حجم الأضرار التى لحقت بأهالى المحافظة فى السطور القادمة.

الديون تتراكم والأمل يغرق

“الفيضان خرب بيتى وديونى 790 ألف جنيه”، بهذه العبارة وصف المزارع عبد الفتاح السيد منصور، من قرية الصوّاف بمركز كوم حمادة، حجم الكارثة التى حلت به.

“كان عندى أملٌ فى الأرزِ يسدُّ جزءًا من ديونى البالغةِ 790 ألف جنيه، ويُعوضُنى خسارةَ محصول البطاطسِ الماضي.” بهذه العباراتِ الموجعة، وصف عبد الفتاح الفيضان الذى جاء ليقلب حياته رأسًا على عقبٍ، فقد قضى على محصولِ الأرزِ الذى لم يتمكن سوى من حصادِ ربعِهِ، تاركًا الباقى غارقًا فى مياهِ النيلِ الجارفةِ التى ارتفعت مناسيبُها فجأةً لتُعلنَ عن تدميرِ وضعِهِ الماديِ.

أصبح عبد الفتاح غارقًا فى ديونٍ تقترب من 790 ألف جنيه؛ فبعدما خسرَ محصولَ البطاطسِ السابقِ واضطر لتقديمِهِ علفًا للبهائمِ، كانَ أملُهُ الأخيرُ معقودًا على محصول الأرز ليُخففَ من وطأةِ دَينِهِ، لكنَّ طغيانَ مياهِ النيل حطم هذا الأملَ وأجهزَ على قدرته على توفيرِ القوتِ والمصاريفِ لأهلِ بيتِهِ.

وكشف عبد الفتاح أن مأساته لا تخصه وحده، بل هى حال جيرانه المتضررين فى القرية، حيث لحقت الأضرار بنحو 20 فدانًا مزروعة بالأرز والذرة، مشيرا إلى أن بعضهم لم يتمكن من حصاد حتى نصف محصوله لتقليل خسائره، مع الأخذ فى الاعتبار أن تكلفة زراعة فدان الأرز الواحد تبلغ 30 ألف جنيه، وأكد أن جميع هؤلاء المزارعين “بسطاء” ويستأجرون أراضيهم من الدولة، مضيفًا أن بعضهم زرع الأرز فى مساحات صغيرة (قراريط) بهدف تأمين طعام أسرته وتجنب شرائه من السوق.

التعليم فى مهب الريح

“هنزل ابنى يشتغل عشان ينقذ إخواته”، بهذه الكلمات عبّر عاصم خليفة من قرية الصواف عن الخراب الذى حلّ بأسرته بعد غرق محصول الأرز.

“سأضطر إلى أن ينزل ابنى للعمل، وكنتُ أنوى بيع المحصول للإنفاق على بيتى وتعليم أولادى فى الثانوية والجامعة”. بهذه الكلمات المؤلمة، وصف عاصم المشهد المأساوى المتمثل فى اضطرار المزارعين لحصاد ما يمكن إنقاذه من المحصول وهو لا يزال زرعًا أخضر، أى قبل موعده بـ عشرين يومًا، وعن زيارة مسؤولى المحافظة لقريتهم، قال عاصم بأسى: “كل ما فعلوه أنهم طلبوا منا الابتعاد عن النهر خوفًا على أولادنا”.

ووسط قلقه على مستقبل أبنائه (ولدين فى التعليم الثانوي، وابنة فى الجامعة)، كان يعتمد على أرباح بيع محصول الأرز لتغطية نفقاتهم الدراسية ومصاريف المنزل، لكن كل ذلك تبدد بضربة الفيضان، مما اضطره للقول: “اضطريت أشغل ابني”.

وكشف خليفة أن الأراضى التى غرقت ليست أراض مُعتدًى عليها من طرح النيل، بل هى أراضٍ تابعة لأملاك الدولة الخاصة، ويتم تأجير الفدان منها سنويًا مقابل 5 آلاف جنيه. وأشار إلى أن المزارعين توقفوا عن زراعة محصول الفاصوليا منذ ثلاثة أعوام تقريبًا؛ وذلك نتيجة التغير الذى طرأ مؤخرًا على فيضان النيل، حيث تغير موعد ارتفاع منسوب المياه عن الأعوام السابقة.

خسارة المحصول والماشية

“الفراولة باظت وبيتى اتخرب وعجولى ماتت.” بهذه العبارات الموجعة، أكد محمد جمال حميدة، أحد المتضررين من أهالى قرية أبو الخاوى بمركز كوم حمادة، تعرضه لخسائر فادحة بعد غمر الفيضان لأرضه ومحصول الفراولة.

تُعد زراعة الفراولة تتطلب جهدًا كبيرًا وتكلفة عالية، لذا كانت الخسارة شديدة، حيث تجاوزت 400 ألف جنيه للفدان الواحد، ويُعرف هذا المحصول بأنه “فاتح بيوت كثيرة” يستفيد منه العامل والتجارة، لكن كل هذا ضاع فى غمضة عين ودون سابق إنذار.

وشبه حميدة الفيضان بـ “النيران” التى التهمت أرباحه التى ينتظر حصادها، قائلًا بمرارة: “الفراولة باظت والبهايم غرقت والدنيا خربانة”، موضحا أنه تكبد خسائر مادية بلغت 2 مليون جنيه لتدهور محصول 5 أفدنة فراولة، إضافة إلى خسارته فى صغار الماشية التى نفقت بعد دخول المياه إلى الزرائب.

ووصف المشهد المأساوي: “البهائم والعجول الصغيرة ماتت، كانت أمهاتهم ولدتهم للتو منذ أسبوع، وطبعًا المياه والرطوبة طالتهم، وبالكاد تمكنت من انقاذ ما تبقى،بعد أن نفق بعضها وبِيعت الباقى بسعر أقل من سعرها الحقيقي، حتى الأكل فى المخازن طالته المياه، طالت التبن والرَّدّة والعلف الخاص بالبهائم. حالنا يصعب على الكافر.” كما أشار إلى تدهور تجارته فى الفراولة، حيث كان ينتظر حصاد جيرانه لشراء المحصول والمتاجرة به.

لا تحذير ولا تعويض

كشف حميدة عن عدم قيام الأجهزة المعنية فى البحيرة بتحذيرهم مسبقًا؛ حيث فوجئ المزارعون بدخول المياه بهذا المنسوب العالى غير المعتاد، فهم اعتادوا أن يرتفع المنسوب سنويًا بشكل لا يضر، وقد قاموا بتبوير الأراضى المنخفضة.

وأكد عدم تعويضهم من الحكومة، مشددًا على أن هذه الأراضى ليست مُعتدى عليها، بل هى أراض متوارثة “من جدود جدود جدودنا”، استصلحها الأهالى بجهودهم وهى مؤجرة من الحكومة ويدفعون لها إيجارًا سنويًا.

المأساة مستمرة

تحت عنوان “خسائر بـ 200 ألف جنيه ضحية إهمال الجمعيات”، أكد الشحات عبد العليم، وهو متضرر آخر فى قرية أبو الخاوي، أنه تكبد خسائر بلغت 200 ألف جنيه فى زراعة الفراولة، وعزا هذه الخسارة إلى إهمال الجمعيات الزراعية التى كان من المفترض أن تنشر منشورًا تحذيريًا بارتفاع منسوب المياه قبل وصولها بوقت كافٍ لاستعداد المزارعين.

هذا الإهمال لم يحدث منذ ثلاث سنوات، مما ترك الأراضى تغرق سنويًا.، وتساءل: “أين أنتم من شهر وشهرين قبل فلاح ما يزرع لتحذيره؟” مشيرًا إلى ارتفاع تكلفة زراعة فدان الفراولة هذا العام: 150 ألف جنيه للشتلة، 15 ألف جنيه للعمالة، و65 ألف جنيه للخراطيم والخدمات. وأضاف بأسى: “محدش جالنا ولا شفنا حد من المسؤولين، وحتى إذا جاءوا هيعملوا لنا إيه!! لخسائرنا غير أنهم يعفونا من إيجار الأرض السنادي”.

وكشف الشحات أن حجم الأراضى التى غرقت فى المحافظة أكبر بكثير مما ادعاه أحد المسؤولين (60 فدانًا فقط)، حيث قال إن قريتهم وحدها غرق فيها 70 فدانًا، بالإضافة إلى 50 فدانًا فى مناطق الرملة، والعديد من الأفدنة فى قرى كوم شريك، الصواف، ومغنيم وصولًا إلى محافظة الإسكندرية. مؤكدًا أن هذا الوضع سيؤثر على بيوت كثيرة كانت تعتمد عليها فى كسب العيش، خاصة العمالة من السيدات.

تغير توقيت الفيضان

أوضح عبد المنعم آغا من قرية أبو الخاوي، الذى تضررت أرضه المنزرعة بمحصولى الأرز والذرة، أن توقيت هجوم المياه على أراضيهم مخالف للمعتاد سنويًا. ففى العادة يرتفع منسوب المياه فى شهر يناير فيما يُعرف بـ “السدة الشتوية”، ويكون المزارع قد أخذ احتياطاته بعدم الزراعة خلال تلك الفترة. لكنهم فوجئوا بهجوم المياه دون تحذير قبلها بـ 15 يومًا ليتمكن المزارع من تصريف المياه الزائدة.

وأشار إلى أن خسارتهم ليست مالًا فحسب، بل هى ضياع لمجهود الزراعة وانتظار الحصاد، بالإضافة إلى خسارة راحة البال، حيث إن جميع المزارعين المتضررين عليهم ديون لتجار التقاوى وغيرهم، وكانوا ينتظرون بيع المحصول لتسديدها.

جهود المحافظة والزراعة والري

من جهتها، اتخذت مديرية الزراعة بالبحيرة ومسؤولو الرى إجراءات لمتابعة ارتفاع منسوب المياه على الأراضى الزراعية الواقعة فى طرح النهر بمراكز الرحمانية، المحمودية، شبراخيت، إيتاى البارود، وكوم حمادة.

أكد الدكتور حسنى عطية عزام، وكيل وزارة الزراعة بالبحيرة، أنه فور العلم بارتفاع المنسوب تم الانتقال فورًا إلى المراكز المعرضة. وكان هناك تنسيق كامل بين المحافظة ووزارة الموارد المائية والرى لضمان استقرار الأوضاع ومنع أى طارئ والحفاظ على الأمن المائي، والعمل على سرعة التخلص من المياه الزائدة إن وجدت.

وبناءً على تعليمات وزير الزراعة ومحافظ البحيرة، يتم المرور الدورى من خلال مديرية الزراعة والرى على المراكز الواقعة على ضفاف النيل لمتابعة الموقف والتعامل الفورى مع أى مستجدات. كما تم إرشاد المزارعين بعدم سقى المواشى بالماء الراكد وتوفير العلاجات اللازمة للحفاظ على الثروة الحيوانية. وأكد أن جميع الجهات المعنية على استعداد تام لحل أى مشكلة تؤثر على الأرض أو الثروة الحيوانية والداجنة.

من جانبها، طالبت الدكتورة جاكلين عازر، محافظ البحيرة، بتشكيل لجنة مشتركة من مديريتَى الزراعة والرى والوحدات المحلية، للمرور الميدانى المنتظم على المراكز لمتابعة الموقف بشكل مستمر والتعامل الفورى مع أى مستجدات بالتنسيق مع غرفة التحكم والسيطرة.

كما قامت المحافظ الدكتورة جاكلين عازر بجولة تفقدية لقناطر إدفينا بمركز رشيد، تابعت خلالها انتظام مناسيب المياه وتصريفها، مؤكدة أن القناطر تعد من أهم المنشآت المائية التى تتحكم فى المناسيب والتصرفات بعدد من المراكز. وشددت على أهمية المتابعة المستمرة للمنشآت المائية، وتابعت أعمال الصيانة الجارية للهاويس والكوبرى المعدني، موجهة بسرعة الانتهاء منها بأعلى معايير الجودة. وأكدت على التنسيق الكامل بين المحافظة والرى لضمان استقرار الأوضاع والحفاظ على الأمن المائي. كما قامت بجولة تفقدية لأراضى طرح النهر بمركز كوم حمادة لمتابعة المناسيب والتأكد من استقرار الأوضاع.