من مقاومة القمع إلى جائزة نوبل، قصة ماريا كورينا ماتشادو رمز الديمقراطية في فنزويلا
في بلد أنهكته العقوبات والانقسامات والفقر، ووسط ظلال نظام حديدي لا يعرف سوى لغة القمع، تبرز امرأة نحيلة الملامح قوية الإرادة اسمها ماريا كورينا ماتشادو.
إنها الوجه المدني الأبرز في معركة استعادة الديمقراطية في فنزويلا، وصوت الملايين الذين يصرون على أن الاقتراع أقوى من الرصاص، وأن الحلم بوطن حر ليس ترفا بل حق لا يسقط بالتقادم.
حين أعلنت لجنة نوبل النرويجية منح جائزة نوبل للسلام لعام 2025 لماتشادو، لم يكن الأمر مجرد تكريم سياسي عابر، بل اعتراف دولي بشجاعة امرأة تحدت السلطة المطلقة في واحدة من أكثر الدول قمعا في نصف الكرة الغربي.

فماريا كورينا لم تكن فقط معارضة تقليدية، بل مهندسة مشروع ديمقراطي كامل سعت من خلاله إلى إعادة بناء الثقة في فكرة الدولة المدنية بعد ربع قرن من الحكم العسكري الشعبوي.
تنحدر ماتشادو من عائلة محافظة تنتمي إلى الطبقة الوسطى العليا في كاراكاس، وتلقت تعليمها في جامعة فنزويلا الكاثوليكية، قبل أن تواصل دراستها في جامعة ييل الأمريكية، حيث تبلورت رؤيتها الليبرالية القائمة على الحرية الفردية والاقتصاد الحر وحكم القانون.
وفي عام 2002 أسست منظمة “سوماتي” (Súmate)، وهي حركة أهلية غير ربحية ركزت على مراقبة الانتخابات وتعزيز ثقافة المشاركة السياسية.
أصبحت المنظمة لاحقا شوكة في حلق نظام هوغو تشافيز، الذي رأى في نشاطها تهديدا مباشرا لمشروعه البوليفاري.
فاتهمها بالخيانة وتلقي الأموال من الخارج، وفرض عليها قيودًا قضائية متواصلة. لكنها واصلت طريقها بثبات، مؤمنة بأن التغيير لا يصنعه السلاح بل الصناديق، وأن شرعية الحكم تُستمد من إرادة الشعب لا من فوهة البندقية.
وفي العقد الأخير، ومع تفاقم الانهيار الاقتصادي وتراجع قيمة العملة الوطنية وتفاقم الهجرة الجماعية، تحولت ماتشادو إلى رمز للأمل. فهي لم ترفع شعارات غامضة، بل تبنت خطابا عمليا يركز على الانتقال السلمي للسلطة، واستعادة مؤسسات الدولة، وفتح المجال أمام الاقتصاد الحر، وإعادة دمج فنزويلا في المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة والعقوبات.

في انتخابات عام 2024، مثّلت ماريا كورينا التيار المعارض الموحد، وحققت حضورًا جماهيريًا غير مسبوق، لكن السلطات منعتها من الترشح بذريعة “مخالفات إدارية”، في محاولة واضحة لإقصائها. ومع ذلك لم تنكسر، بل دعمت مرشحًا آخر هو إدموندو غونزاليس أورييتا، وقادت بنفسها حملة التعبئة الشعبية التي جمعت مئات الآلاف من المتطوعين لمراقبة صناديق الاقتراع.
أظهرت النتائج غير الرسمية فوز المعارضة، لكن النظام رفض الاعتراف بالنتيجة، ما أدى إلى واحدة من أكثر الأزمات السياسية حدة في تاريخ فنزويلا الحديث.
تقول ماتشادو في أحد تصريحاتها الشهيرة: "لقد اخترنا طريق الاقتراع بدل الرصاص، لأن العنف لا يخلق دولة بل قبورًا جديدة." وهي عبارة تلخص فلسفتها السياسية بأكملها: الصمود المدني، والعمل السلمي، والإيمان بأن الديمقراطية ليست حدثًا انتخابيًا، بل ثقافة مستمرة تحتاج إلى شجاعة أكثر من الرصاص ذاته.
لم تغادر ماريا كورينا البلاد رغم التهديد بالاعتقال، بل انتقلت إلى العمل السري، متنقلة بين منازل مؤيديها في العاصمة كاراكاس، تكتب وتخاطب العالم من خلف الجدران.
وقد وصفتها لجنة نوبل بأنها "رمز الشجاعة المدنية في أمريكا اللاتينية"، مؤكدة أنها جسدت القيم الثلاث التي أرادها ألفريد نوبل: توحيد الصف، ونبذ العنف، والسعي إلى السلام العادل.
اليوم، بعد فوزها بجائزة نوبل للسلام، باتت ماريا كورينا ماتشادو تمثل أكثر من مجرد معارضة سياسية؛ إنها شهادة حيّة على أن الإيمان بالديمقراطية يمكن أن يصبح فعل مقاومة، وأن كلمة “حرية” حين تنطقها امرأة وحيدة أمام سلطة غاشمة، قد تُحدث ما لا تفعله الجيوش.
فنزويلا التي أرهقتها الأزمات وجوعها النفط، وجدت في ماريا كورينا وجها آخر للطاقة البشرية وطاقة الإصرار.