فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

رئيس جماعة السينما الفلسطينية يحيى بركات: الإبادة الصهيونية نهج متواصل منذ اللحظة الأولى للاحتلال.. ونعيش مرحلة "العري الكامل للاحتلال" الذي ينفذ "مجزرة القرن" على مرأى ومسمع من العالم

يحيى بركات، فيتو
يحيى بركات، فيتو

يحيى بركات مخرج وكاتب سينمائي فلسطيني، وناشط ثقافي، ورئيس جماعة السينما الفلسطينية، ومؤسس منصة سينمابريدج – CineBridge، وُلد ونشأ في فلسطين، وكرّس مسيرته لاستخدام الصورة السينمائية كأداة مقاومة ثقافية لحفظ الذاكرة الفلسطينية ونقل السردية الفلسطينية إلى العالم.

حصل على بكالوريوس إخراج سينمائي من المعهد العالي للسينما بمصر، وماجستير فنون من الجامعة اللبنانية. عمل مع مؤسسة السينما الفلسطينية، وأخرج عددًا من الأفلام الوثائقية المهمة، مثل: "مسيرة نضال"، "الأيام المشتركة"، "رمال السوافي"، "بيت الله.. حصار كنيسة المهد"، "ريتشل: ضمير أمريكي"، الذي وثّق مقتل الناشطة الأمريكية اليهودية راشيل كوري وزميلها البريطاني توم هرندل.

كتب سيناريو الفيلم الروائي "أشياء عادية" عن معاناة اللاجئين حملة وثائق السفر، وهو من أبرز النصوص الفلسطينية التي تناولت حياة الفلسطينيين حاملي وثائق السفر في دول الطوق.

شغل مناصب متعددة منها: مدير دائرة الإخراج في دائرة الثقافة الفلسطينية.. مدير عام البرامج والإنتاج في هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطيني.. مستشار خاص للمشرف العام للإعلام والثقافة الفلسطينية.. أستاذ محاضر بكلية الإعلام بجامعة القدس.

انتُخب رئيسًا للاتحاد العام للفنانين التعبيريين الفلسطينيين. وفي عام 2004 أعاد تأسيس جماعة السينما الفلسطينية في الداخل، واضعًا أهدافًا واضحة لحفظ الأرشيف السينمائي الفلسطيني، وتدريب الأجيال الجديدة، وإنشاء صندوق مستقل للإنتاج السينمائي.

أسس منصة سينمابريدج – CineBridge، وهي مبادرة عالمية تجمع المخرجين المستقلين من فلسطين والعالم مع المهرجانات وجهات الإنتاج، وتستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في الأرشفة والترجمة وإدارة الحقوق، لتكون جسرًا للسينما المستقلة العالمية بروح فلسطينية.

يؤمن يحيى بركات أن السينما الفلسطينية ليست ترفًا، بل ذاكرة حيّة ومعركة ثقافية وإنسانية. 

حصلت أفلامه على جوائز دولية وعُرضت في مهرجانات بأمريكا، بروكسل، مونتريال، كان، وفينيسيا، وظلت دائمًا تحمل روح الأرض وصوت الإنسان الفلسطيني.

بعد هدوء الأوضاع نسبيا في الأراضي المحتلة، وفي أعقاب توقيع اتفاق شرم الشيخ للسلام، تواصلت "فيتو" مع الكاتب والمخرج الفلسطيني الكبير يحيى بركات، وكان لها معه هذا الحوار المهم.

  • أرجو إعطاءنا لمحة عن جماعة السينما الفلسطينية وتاريخها وأهدافها وإنجازاتها.. وكذلك منصة "سينما بريدج" التي أسستموها.
  • منذ النكبة عام 1948، والفلسطيني يواجه مشروعًا استيطانيًا إحلاليًا هدفه اقتلاع الإنسان ومحو الهوية. حين أُحرقت القرى وهُجّر الناس، كان الخطر الأكبر هو محو الذاكرة. هنا ولدت الحاجة إلى السينما، لا كترف أو متعة، بل كأداة مقاومة ثقافية تحفظ التاريخ وتصون الرواية. السينما الفلسطينية منذ بداياتها كانت ذاكرة شعب في مواجهة النسيان.

وفي عام 1972، أسس الراحل مصطفى أبو علي ورفاقه جماعة السينما الفلسطينية في بيروت كذراع سينمائي للثورة. مهمتها الأولى كانت توثيق النضال والمجازر بالصوت والصورة. من أبرز أفلامها "مشاهد من الاحتلال في غزة" (1973) الذي كشف جرائم الاحتلال والتهجير القسري عقب احتلال غزة 1967. والفيلم وثيقة دامغة على أن الإبادة الصهيونية ليست حدثًا طارئًا، بل نهج متواصل منذ اللحظة الأولى للاحتلال.

وفي عام 2004، أعدنا تأسيس الجماعة في الوطن (فلسطين)، ووضعنا أولويات واضحة، منها: رفع مستوى التذوق السينمائي بين الناس عبر العروض والنقاشات، وجمع الأرشيف السينمائي الفلسطيني، خاصة أفلام الثورة، وحلم إنشاء سينماتيك وطني، وتأسيس صندوق وطني مستقل لدعم الإنتاج، لتحرير المخرج من شروط التمويل الغربي، وإنشاء نوادٍ سينمائية في القرى والمخيمات، وتدريب جيل جديد على صناعة الأفلام، وبناء علاقات عربية ودولية مع المهرجانات المستقلة، لكننا اصطدمنا بالعقبة الكبرى: التمويل المشروط، فقد طلبوا منا أن نخفف من ذكر الاحتلال، وأن نُظهر “الجانب الإنساني” فقط، أن نبتعد عن المقاومة.. رفضنا ذلك، وفضّلنا الحرية بفيلم صغير على قيود فيلم كبير.

من هذه التجربة خرج مشروع سينما بريدج – CineBridge. سينمابريدج ليس مجرد موقع إلكتروني؛ بل منصة عالمية بروح فلسطينية.

لماذا سينمابريدج؟ لأنني أدركت أن السينمائي الفلسطيني والمستقل في الجنوب العالمي يعيش حالة اعتقال غير مرئية: محاصر بالسياسة، محروم من التمويل، مهمّش في المهرجانات الكبرى.. أردنا أن نصنع جسرًا عالميًا.. المخرج من غزة والمنتج من كولومبيا.. كاتبة السيناريو من كينيا ومهرجان برلين.. المخرج في المنفى وجهة دعم مستقلة بلا شروط سياسية.

تضم المنصة أربع وحدات:

1. أرشيف رقمي لحماية الأفلام من الضياع.

2. سوق للمشاريع يربط الأفلام بمنتجين مستقلين.

3. أكاديمية تدريبية عبر الإنترنت.

4. أدوات ذكاء اصطناعي للترجمة والأرشفة وإدارة الحقوق.

وهي استجابة لفشل النظام التقليدي في احتضان السينما الحرة، وامتداد لروح كاميرا الثورة الفلسطينية، لكن بلغة معاصرة وأدوات تكنولوجية حديثة. فلسطين هنا ليست “موضوعًا”، بل جسرًا عالميًا للسينما المستقلة.

الإبادة الممتدة منذ 1948 حتى 7 أكتوبر 2023

  •  كيف تقرأون ما تعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023؟، ولا يزال حتى بعد اتفاق السلام بشرم الشيخ، وهل يمكن وصف ما يحدث بأنه حرب إبادة ممنهجة؟
  • 7 أكتوبر لم يكن البداية، بل فصلًا جديدًا في ملحمة الإبادة الممتدة منذ 1948. من دير ياسين إلى الطنطورة، من كفر قاسم إلى صبرا وشاتيلا وتل الزعتر، الدم الفلسطيني لم يتوقف. غزة اليوم تعيش استمرارًا لهذا النهج: قتل جماعي، تهجير قسري، تجويع، وتدمير شامل للبنية التحتية.

الفرق أن هذه الجرائم اليوم تُبث مباشرة أمام العالم.. أمام الكاميرات.. أطفال يُقتلون على الهواء، مستشفيات تُقصف، مخيمات تُمحى. العالم يرى. الأمم المتحدة مشلولة، مكبلة بالفيتو الأمريكي.. لكن الصورة تحولت إلى وثيقة جنائية ضد الاحتلال. كما بقيت صور صبرا وشاتيلا شاهدة، ستبقى صور غزة شاهدة على أبشع جرائم الإبادة في القرن الحادي والعشرين.

  • ما الذي ميّز هذه المرحلة من العدوان عن الحروب السابقة على الشعب الفلسطيني، خاصة فيما يتعلق بالاستهداف المباشر للأطفال والنساء والمستشفيات؟
  • ما يجري اليوم في غزة يختلف جذريًا عن كل الحروب السابقة، ليس فقط في حجم القتل والدمار، بل في نوعية الاستهداف وجرأته وعلانيته.. نحن أمام مرحلة جديدة يمكن تسميتها بـ "مرحلة العري الكامل للاحتلال": لم يعد يخفي نواياه، لم يعد يتحدث عن "أهداف عسكرية"، بل أعلن صراحة أن الهدف هو الإنسان الفلسطيني ذاته، جسده وذاكرته ومؤسساته ومستقبله.

في الحروب السابقة كان هناك، ولو شكليًا، حديث عن "تجنّب المدنيين"، "التزام القانون الدولي"، أو "أضرار جانبية".. أمّا اليوم فالمستشفيات صارت أهدافًا مباشرة: من الشفاء إلى الأقصى إلى المستشفى الأهلي.. النساء والأطفال في قلب قائمة القتل: آلاف الضحايا دون أي محاولة لإخفاء أن الاستهداف مقصود.. البيوت تُقصف على رؤوس ساكنيها بلا إنذار، المخيمات تُسوى بالأرض، حتى الكنائس لم تنجُ، فقد قُصفت كنيسة القديس بروفيريوس التي لجأ إليها عشرات العائلات.

الحجم غير المسبوق للقتل الجماعي: نحن نتحدث عن عشرات الآلاف من الشهداء خلال شهور قليلة، بينهم نسبة عالية من الأطفال.. هناك أحياء كاملة مُحيت، عائلات بكاملها اختفت.. هذه ليست "معركة محدودة"، بل مشروع إبادة شامل، فالاستهداف المركّب للبنية التحتية المدنية: المستشفيات خرجت عن الخدمة، الجامعات دُمّرت (الجامعة الإسلامية، جامعة الأزهر)، المكتبات والمراكز الثقافية مُحيت، وحتى المقابر لم تسلم.. وكأن الاحتلال يريد أن يقتل الحاضر ويمحو الماضي ويغلق الطريق أمام المستقبل.

 التجويع كأداة حرب: لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، يُمنع الغذاء والدواء عن أكثر من مليونَي إنسان بشكل منهجي. الأطفال يموتون من الجوع أمام الكاميرات.. إنها حرب إبادة بأسلوب جديد: القتل ليس فقط بالصواريخ، بل أيضًا بقطع الماء والخبز والدواء.

العرض العلني للجرائم أمام العالم.. في السابق كان الاحتلال يحاول التحكم في الصورة، اليوم العالم كلّه يرى مباشرة عبر الهواتف، عبر الشاشات، عبر الصحافة الشعبية. ومع ذلك، لم يتحرك المجتمع الدولي بالشكل المطلوب، ما يكشف حجم تواطؤ النظام العالمي وهيمنة الفيتو الأمريكي.

هذه المرحلة إذًا ليست حربًا عابرة، بل مجزرة القرن، حرب تستهدف أساس الوجود الفلسطيني: الجسد (بالقتل)، المكان (بالتدمير)، الذاكرة (بمحو الآثار والثقافة)، والمستقبل (بقتل الأطفال وتجويعهم). إنها الحرب التي سقطت فيها كل الأقنعة، وأصبح الاحتلال مكشوفًا ككيان فاشي يمارس الإبادة على الهواء مباشرة.

تأثير الكارثة على السينما

  • كيف أثّرت هذه الكارثة الإنسانية على العاملين في الحقل السينمائي داخل فلسطين؟ هل فقدنا مخرجين أو مصورين أو فنانين خلال هذه الحرب؟
  • السينما ليست بعيدة عن الدم.. المخرجون والمصورون في فلسطين لا يعملون من وراء الكواليس، بل هم في قلب النار.. الكاميرا في غزة لا تفصل بين العمل الفني والعمل الحياتي؛ من يحملها يعرف أنه قد يُقتل في أية لحظة.

خلال هذه الحرب فقدنا مصورين شبابًا كانوا يسجلون بأجهزتهم البسيطة لحظة القصف.. بعضهم استشهد والكاميرا في يده، وبعضهم نزح تاركًا وراءه أرشيفًا ثمينًا تحول إلى ركام. هذه ليست خسائر فردية فقط، بل خسارة لذاكرة جمعية.. كل فيلم لم يُكتمل، كل لقطات ضاعت، كل كاميرا تحطمت هي جزء من الإبادة الثقافية.

هناك أسماء بارزة مثل المصور الشهيد يوسف العَـلاوي، وغيرهم من الصحفيين السينمائيين الذين صاروا شهداء الصورة.. وهناك استوديوهات صغيرة كانت تشكل حلمًا جماعيًا لشباب غزة، لكنها دُمرت.. هذا يعني أن البنية التحتية لصناعة السينما المحلية ضربت بشكل ممنهج.

لكن في المقابل، هناك جيل جديد يولد تحت النار: شباب وفتيات يصورون بالهواتف، يوثقون اليوميات، ينقلون قصصًا شخصية عميقة.. هؤلاء لا ينتظرون تمويلًا ولا إنتاجًا، بل يكتبون بدمهم. هذه التجارب الصغيرة تتحول إلى أفلام قصيرة تُعرض في الخارج، كما حدث مع مجموعة "من المسافة صفر" التي جمعها المخرج رشيد مشهراوي.

إذن، الخسارة كبيرة على مستوى الأرواح والأرشيف، لكنها ولادة أيضًا لجيل جديد يكتب بلغة جديدة.. وهذا هو سر السينما الفلسطينية: أنها تنهض دائمًا من تحت الركام، تُقتل مخرجة فتنهض عشر كاميرات صغيرة، يُهدم مركز ثقافي فيولد مشروع فيلم جديد.

توثيق جرائم الاحتلال بالأرشيف السينمائي

  • هل لديكم في الجمعية إحصاءات أو توثيقات تتعلق بالخسائر التي لحقت بالبنية التحتية الثقافية والسينمائية في غزة تحديدًا؟
  • نعم، لدينا رصد أولي، وما وثّقته أيضًا منظمات مثل اليونسكو يؤكد أننا أمام كارثة ثقافية غير مسبوقة.. أكثر من 100 موقع ثقافي بين مكتبة ومتحف ومسرح ومركز فني تضرر أو دُمّر بالكامل.. الجامعات التي كانت حاضنة للطلبة الموهوبين في الإعلام والسينما تحولت إلى ركام: الجامعة الإسلامية، جامعة الأزهر، وحتى قاعات التدريب الصغيرة داخل المخيمات لم تسلم.

السينما نفسها كفضاء عرض كانت محدودة أصلًا، والآن لم يعد لها وجود تقريبًا.. دور العرض في غزة كانت قليلة، لكنها أُغلقت تمامًا أو دُمرت. المراكز التي أسسها الشباب لعروض صغيرة أو ورش تدريب لم يبق منها شيء.

الخسائر لا تُقاس بالمباني فقط، بل بالأرشيف.. كثير من المخرجين احتفظوا بموادهم في استوديوهات صغيرة أو منازلهم، ومع القصف ضاع كل شيء.. هذه الأفلام لا يمكن تعويضها، لأنها وثائق للحياة اليومية، لقصص الناس، لأحداث صغيرة لا تعيدها الكاميرا مرة أخرى.

هذا التدمير ليس عرضيًا، بل سياسة مقصودة.. الاحتلال يعرف أن المعركة ليست فقط على الأرض، بل على الذاكرة. ضرب الجامعات والمكتبات والمراكز الثقافية جزء من مشروع محو الذاكرة الفلسطينية، تمامًا كما فعل في النكبة حين حرق القرى ونهب الصور والمخطوطات.

لكننا في الجمعية نعمل على خطة بديلة: تجميع ما يمكن إنقاذه من أرشيف، تخزين رقمي في الخارج، تعاون مع منصات مستقلة مثل "سينمابريدج" لحماية ما تبقى من الإنتاجات.. قد يخسر الاحتلال جولة على الأرض، لكن الصورة التي توثّق جرائمه تبقى، وهذا ما يخيفه أكثر من الصواريخ أحيانًا.

السينما الفلسطينية سلاح للمقاومة

  • ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه السينما الفلسطينية اليوم في ظل هذه المأساة؟
  • السينما الفلسطينية اليوم ليست رفاهية، بل سلاح ثقافي لا يقل أهمية عن أي أداة مقاومة أخرى. دورها يتلخص في ثلاث مستويات:

1. حفظ الذاكرة: كل لقطة فيلم تُصوّر اليوم في غزة هي شهادة تاريخية. بعد سنوات، عندما يحاولون تزوير ما جرى، ستكون هذه الأفلام بمثابة المحاكمات البصرية التي تدين الاحتلال.

2. نقل الرواية الفلسطينية إلى الخارج: العالم اليوم تغرقه آلة الإعلام الغربي المنحازة، لكن الفيلم يملك قوة اختراق أكبر. فيلم مثل "5 كاميرات محطمة" وصل إلى الأوسكار. فيلم مثل "ريتشل: ضمير أمريكي" هز الرأي العام في بروكسل ومونتريال. هذه الأفلام تقلب المزاج السياسي والثقافي في الغرب.

3. بناء الوعي الداخلي: السينما ليست فقط لتصدير الصورة، بل أيضًا لتقوية المجتمع الفلسطيني نفسه. عندما يشاهد الفلسطيني فيلمًا عن نفسه، عن معاناته وصموده، فإنه يجد في ذلك عزاءً وقوة واستمرارًا.

إذن، السينما الفلسطينية اليوم هي ذاكرة، وصوت للعالم، ووسيلة صمود داخلي. إنها معركة لا تقل أهمية عن أي جبهة أخرى.

الفيلم السينمائي وثيقة لا تُمحى

  • كيف ترون أهمية الصورة السينمائية مقابل الرواية الإعلامية الغربية المضللة؟
  • الرواية الإعلامية الغربية، كما نعرف، تُبنى بسرعة وتُستهلك بسرعة.. تقرير إخباري يُنسى في اليوم التالي.. أما الفيلم السينمائي فهو وثيقة تبقى عقودًا، وتُدرّس في الجامعات، وتُعرض في المهرجانات، وتُفتح حوله النقاشات العامة. الفرق بين الخبر والفيلم هو الفرق بين صرخة عابرة وذاكرة جماعية.

السينما الفلسطينية، منذ نشأتها، أثبتت أن الصورة السينمائية أعمق من أي بيان سياسي. وعلى سبيل المثال: فيلم "بيت الله – حصار كنيسة المهد": وثيقة دامغة عن محاصرة الكنيسة في بيت لحم، حيث مُنع الماء والكهرباء والطعام عن المحتمين بها لمدة قاربت أربعين يومًا، في وصمة عار أخلاقية على جبين العالم المسيحي قبل الإسلامي. الفيلم لم ينقل مشاهد حصار فحسب، بل كشف كيف أن الاحتلال لا يحترم أي حرمة دينية.

فيلم "ريتشل: ضمير أمريكي": لم يوثّق فقط مقتل الناشطة الأمريكية اليهودية راشيل كوري تحت جرافة عسكرية إسرائيلية عام 2003، بل أظهر أيضًا اغتيال زميلها الناشط البريطاني توم هرندل بعد أسبوع واحد، برصاصة قنّاص وهو يحمي أطفال رفح. عند عرضه في بروكسل ومونتريال وأمريكا، كان أثره صاعقًا: الاحتلال لم يعد يقتل الفلسطيني فقط، بل يقتل أبناء الغرب المتضامنين معه. الصورة هنا كسرت جدار الصمت الإعلامي.

"جنين جنين"، محمد بكري: هذا الفيلم فتح معركة عالمية. الاحتلال حاول منعه وتشويه سمعته، لكنه بقي وثيقة عن مجزرة مخيم جنين عام 2002.

"الجنة الآن" و"عمر"، هاني أبو أسعد: نقلتا الرواية الفلسطينية إلى الأوسكار وجعلتا العالم يرى أن المقاومة ليست "إرهابًا" بل خيارًا وجوديًا لشعب يعيش القهر اليومي.

"5 كاميرات محطمة"، عماد برناط: فيلم وثائقي بسيط لكنه تحول إلى أرشيف نضالي حي، يوثّق سنوات من المقاومة الشعبية في بلعين.

"الهدية"، فرح النابلسي: قدّمت قصة إنسانية مكثفة عن أب وطفلته أمام الحواجز الإسرائيلية، قصة بسيطة لكنها وصلت إلى جمهور عالمي.

"200 متر"، أمين نايفة و"غزة مونامور"، طرزان وعرب ناصر: قدّمت إنسانية الفلسطيني بعيدًا عن الصور النمطية، وجعلت المشاهد الغربي يتعاطف مع تفاصيل الحياة اليومية تحت الاحتلال.

أعمال آن ماري جاسر ونجوى النجار وشيرين دعيبس: من "واجب" إلى "بين الجنة والأرض" إلى "أمريكا"، كلها أفلام أعادت تعريف الفلسطيني كإنسان حقيقي، معقد، متنوع، وليس مجرد صورة ضحية.

"صوت هند"، كوثر بن هنية (تونس): فيلم شارك في فينيسيا ورُشّح للأوسكار، جعل صوت الطفلة هند رجب التي قُتلت في غزة صرخة كونية.

كل هذه الأفلام مجتمعة كسرت الرواية الإعلامية الغربية المضللة، وخلقت أرشيفًا بصريًا عالميًا لا يمكن تجاوزه. الخبر يزول، لكن الفيلم يبقى، والفلسطيني أدرك أن معركته ليست فقط على الأرض، بل أيضًا على الشاشة.

"الإبادة المركبة"

  • هل هناك مشاريع أفلام وثائقية أو روائية قيد الإنتاج حاليًا توثّق جرائم الاحتلال خلال هذه الحرب؟
  • نعم، هناك مشاريع كثيرة قيد الإنتاج، بعضها وُلد من تحت الركام.

مشروعي الشخصي الجديد: أعمل على توثيق ما أسميه "الإبادة المركبة"، ليس فقط إبادة الإنسان الفلسطيني، بل إبادة الموروث الثقافي والتراثي.. الاحتلال لم يكتف بقتل الأطفال، بل دمّر الجامعات والمكتبات والمساجد والكنائس والآثار، محاولًا محو الذاكرة الفلسطينية من جذورها.. الفيلم يسعى لطرح سؤال: كيف يمكن لثقافة أن تبقى إذا أُبيدت شواهدها الحية؟

رشيد مشهراوي: يواصل عمله داخل وخارج فلسطين، ويدعم الشباب الذين صوروا أفلامًا قصيرة من قلب غزة، مثل مجموعة "من المسافة صفر"، التي تحولت إلى وثيقة بصرية جماعية عن الحرب.

سعود مهنا: من أبرز المخرجين في غزة الذين وثّقوا العدوان بأفلام قوية، تحولت إلى مرجع بصري لما جرى.

الشباب الغزيون: بمبادرات فردية يصورون بالهواتف وينشرون على الإنترنت، وتتحول بعض هذه المواد لاحقًا إلى أفلام قصيرة تُعرض في الخارج. هذه الأفلام الخام تملك قوة لا تضاهيها أحيانًا أية إنتاجات ضخمة.

آن ماري جاسر: فيلمها "1936" سيُمثل فلسطين في الأوسكار، رابطًا بين ثورة 1936 الفلسطينية وما يجري اليوم، مؤكّدًا أن المقاومة الفلسطينية متجذرة في التاريخ.

شيرين دعيبس: تواصل عملها في فضاء الشتات، تطرح أسئلة الهوية والانتماء.

كوثر بن هنية: بفيلمها "صوت هند"، الذي فاز في فينيسيا ورُشّح للأوسكار، وضعت العالم أمام سؤال: كيف يسمح أن يُقتل صوت طفلة على الهواء؟

إذن، هناك جيل كامل من المشاريع، بعضها تحت الإنتاج وبعضها يُعرض الآن، كلها تؤكد أن السينما الفلسطينية والعربية ليست متفرجًا على المأساة، بل شريكًا في صياغة الذاكرة والتاريخ.

  • كيف يمكن للسينمائي الفلسطيني أن يوازن بين الالتزام الأخلاقي والجرأة الفنية عند تصوير مشاهد الدمار والموت والمقاومة؟
  • هذا سؤال جوهري.. الخطر دائمًا أن يتحول تصوير الموت إلى ابتذال، أو أن تُستغل صور الضحايا بطريقة غير لائقة.. لذلك، الالتزام الأخلاقي عند المخرج الفلسطيني هو الأساس: لا يمكن أن نبيع دماء أطفالنا من أجل مشهد مؤثر.

الجرأة مطلوبة، نعم، لكن الجرأة لا تعني الإثارة.. الجرأة تعني أن نقول الحقيقة كما هي، بلا تزييف، بلا خوف، وبلا تلطيف.. عندما نصور جثث الأطفال تحت الركام، يجب أن نظهر المأساة بصدق، لكن أيضًا نحافظ على كرامة الضحية.

الفن والأخلاق يلتقيان عندما نضع الإنسان في المركز.. ليس الهدف أن نصدم العالم بمشاهد بشعة فقط، بل أن نُشعره أن هؤلاء الضحايا بشر حقيقيون لهم أسماءٌ وأحلامٌ.. لهذا، كثير من الأفلام الفلسطينية الناجحة اختارت التركيز على تفاصيل صغيرة: لعبة طفل، ابتسامة أم، لحظة عناق، بدلًا من مشاهد الدم المباشرة. هذه التفاصيل أكثر تأثيرًا من ألف صورة عنف، إذن، التوازن يتحقق حين نضع الكرامة الإنسانية في المقدمة، ونستخدم الجرأة لكشف الجريمة، لا لاستغلالها.

هناك تحول واضح في الموقف الدولي السينمائي

  • ما مدى تفاعل المجتمع الدولي السينمائي مع ما يجري في فلسطين؟ هل تلقيتم دعمًا أو تضامنًا من مهرجانات أو مؤسسات سينمائية؟
  • هناك تحول واضح في الموقف الدولي السينمائي، لم نشهده من قبل.

بيانات التضامن؛ صدرت عشرات البيانات من مؤسسات ومهرجانات سينمائية، تُدين القصف وتعلن تضامنها مع فلسطين.

المهرجانات الكبرى؛ مهرجان كان، فينيسيا، برلين، مونتريال، خصصت كلها مساحات لفلسطين، سواء عبر أفلام أو ندوات أو تصريحات. في فينيسيا مثلًا، كان حضور فيلم "صوت هند" بمثابة صفعة على وجه الرواية الإسرائيلية.

المقاطعة؛ أكثر من 1200 فنان عالمي وقّعوا على بيانات تدعو لمقاطعة المؤسسات السينمائية الإسرائيلية لأنها تدعم جيش الاحتلال.

الدعم العملي؛ ما زال محدودًا.. صحيح هناك تضامن، لكننا بحاجة إلى تمويل، إلى منصات عرض، إلى حماية للمخرجين الميدانيين.

إذن، هناك تضامن رمزي كبير، لكن التحدي هو تحويله إلى دعم ملموس. ومع ذلك، هذه بداية مهمة؛ فلأول مرة في تاريخ السينما العالمية، يُطرح سؤال فلسطين بهذه القوة في المهرجانات الكبرى.

الفيلم الفلسطيني قادر على اختراق الرأي العالمي

  • هل تعتقدون أن الفيلم الفلسطيني قادر على إحداث اختراق في الرأي العام العالمي؟ وهل من أمثلة لأفلام سابقة حققت ذلك؟
  • نعم، وأقولها بثقة. لدينا تاريخ طويل من الأفلام التي أحدثت اختراقات في الرأي العام.

محمد بكري، جنين جنين: رغم محاربته قضائيًا، أصبح الفيلم مرجعًا عالميًا لمجزرة جنين.

هاني أبو أسعد، الجنة الآن، عمر: وصلت إلى الأوسكار، وأجبرت المشاهد الغربي على طرح سؤال: لماذا يضحي إنسان بنفسه؟!

آن ماري جاسر، واجب، لما شفتك: قدّمت صورة إنسانية وعائلية للفلسطيني، كسرت الصورة النمطية.

نجوى النجار، المر والرمان، بين الجنة والأرض: نقلت قصص الحب والإنسانية الفلسطينية إلى العالم.

أفلامي، بيت الله، ريتشل: ضمير أمريكي: عرضت حصار كنيسة المهد وقتل ناشطين غربيين، وحوّلت القضية الفلسطينية إلى شأن عالمي.

إذن، الفيلم الفلسطيني قادر، وقد فعلها مرارًا. كل فيلم هو اختراق صغير يتراكم ليُحدث تحولات كبرى في الرأي العام.

السينمائي العربي يحمي ذاته وثقافته وكرامته بدفاعه عن فلسطين

  • كيف ترون مسؤولية السينمائيين العرب تجاه ما يحدث في فلسطين اليوم؟ هل هناك تعاون أو مبادرات مشتركة؟
  • مسؤولية السينمائيين العرب ليست عاطفية أو أخلاقية فقط، بل تاريخية وثقافية.. فلسطين ليست قضية "خارجية" عن الجغرافيا العربية، بل هي مرآة تكشف وجه كل نظام وكل مثقف وكل فنان.. ولهذا، السينمائي العربي عندما يناصر فلسطين لا يفعل خيرًا للآخرين، بل يحمي ذاته وثقافته وكرامته.

في هذه الحرب الأخيرة رأينا مواقف واضحة: مخرجون ومخرجات عرب قدّموا بيانات، بعضهم انسحب من مهرجانات ترعاها جهات متواطئة مع الاحتلال، آخرون بادروا لدعم عروض تضامنية أو إنتاج مشترك. المخرجة التونسية كوثر بن هنية بفيلمها "صوت هند" ليست فقط صوتًا تونسيًا أو فلسطينيًا، بل صوتًا عربيًا جماعيًا، حمل الطفلة الغزاوية إلى شاشات فينيسيا والعالم.

التعاون العربي موجود لكنه ما زال محدودًا.. لدينا محاولات إنتاج مشترك فلسطيني– لبناني، أو فلسطيني– مصري، لكنها تصطدم أحيانًا بالرقابة أو بالتمويل السياسي.. المطلوب اليوم هو شبكة عربية مستقلة: منصات دعم وتوزيع وتدريب بعيدة عن الشروط الغربية.. فلسطين يمكن أن تكون القلب النابض لهذه الشبكة.

المسؤولية أيضًا أن لا يتركوا المخرج الفلسطيني وحيدًا في مواجهة الرقابة واللوبيات.. عندما يُمنع فيلم فلسطيني من مهرجان أوروبي، يجب أن ينسحب المخرج العربي تضامنًا. هذا النوع من المواقف يخلق ميزان قوة.

إذن، مسؤولية السينمائيين العرب اليوم أن يكونوا شركاء فعليين: إنتاجًا، وتوزيعًا، وموقفًا.. أن يفهموا أن معركة فلسطين هي معركة الثقافة العربية كلها.

  • إلى أي مدى تشكل الأفلام الوثائقية سلاحًا ثقافيًا يمكن من خلاله تفنيد رواية الاحتلال وتأكيد الرواية الفلسطينية؟
  • الأفلام الوثائقية الفلسطينية هي "الأرشيف الموازي" للتاريخ.. إذا كان الاحتلال يكتب التاريخ الرسمي بلغة القوة، فإن الوثائقي الفلسطيني يكتبه بلغة الصورة والدم.

خذ مثلًا "5 كاميرات محطمة"، فيلم بسيط عن المقاومة الشعبية في بلعين، لكنه صار مرجعًا عالميًا عن الاستيطان والجدار. أو "جنين جنين"، رغم كل محاولات المنع والتشويه، بقي شاهدًا حيًا على المجزرة. أو فيلمي "ريتشل: ضمير أمريكي"، وثيقة عن مقتل ناشطين غربيين، تحولت إلى سلاح ثقافي في أمريكا وأوروبا.

الوثائقي أقوى من الخبر، لأنه لا يزول مع دورة الإعلام. يُعرض في المهرجانات، يُدرس في الجامعات، يُشاهد بعد عشرين عامًا ويظل مؤثرًا. وهو أيضًا متاح للشباب، بكاميرا صغيرة يمكن أن تنتج وثيقة خالدة.

إذن، الوثائقي الفلسطيني هو سلاح لا يقل عن البندقية، يفضح الاحتلال، يثبّت الرواية، ويمنع محو الذاكرة.

السينما تستطيع إعادة الحياة لآلاف الأطفال الذين استشهدوا

  • آلاف الأطفال قضوا في هذه الحرب، والكثيرون فقدوا ذويهم. كيف يمكن للسينما أن تحفظ ذاكرتهم؟
  • الأطفال هم قلب هذه المأساة.. الاحتلال لم يقتل الحاضر فقط، بل قتل المستقبل. السؤال: كيف نحفظ ذاكرتهم؟

السينما تستطيع أن تعيد أسماءهم ووجوههم إلى الحياة.. أن تجعل كل طفل قصة، لا رقمًا في قائمة. يمكن أن نصنع أفلامًا عن ألعابهم، عن دفاترهم، عن أحلامهم الصغيرة. لقطة قصيرة لطفلة تحتضن لعبتها وسط الركام أبلغ من ألف بيان سياسي.

لدينا مسؤولية أن نوثّق، ليس فقط الموت، بل أيضًا الحياة التي سُرقت.. أن نقول للعالم: هذا الطفل كان يريد أن يصبح طبيبًا، أو رسامًا، أو لاعب كرة.. هذه الطفلة كانت ترسم على جدار غرفتها.. هذا التلميذ كان يكتب اسمه على دفتر المدرسة.

بهذا المعنى، السينما تصبح ذاكرة بديلة تحفظهم من النسيان. تجعلهم جزءًا من التاريخ الإنساني، لا مجرد ضحايا محليين.

الفخ الأكبر هو تحويل الألم إلى "بضاعة"

  • ما هو تصوركم لدور الأفلام في نقل الألم الفلسطيني الإنساني للعالم دون الوقوع في فخ الابتذال أو الاستغلال؟
  • الفخ الأكبر هو تحويل الألم إلى "بضاعة".. بعض وسائل الإعلام الغربية تفعل ذلك: تركز على مشاهد الدماء لتثير العاطفة، ثم تنساها.. السينما الفلسطينية عليها أن تتجاوز هذا الفخ.

كيف؟ بالصدق والبساطة. لقطة واحدة لطفل يبحث عن أمه بين الركام قد تهز ضمير العالم أكثر من عشر مشاهد دامية. التركيز على التفاصيل الإنسانية الصغيرة هو ما يجعل الفيلم صادقًا: ابتسامة أم رغم الحصار، ضحكة طفل وسط الأنقاض، عناق أخوين بعد فقدان العائلة.

الفيلم الذي يسعى للاستغلال يسقط بسرعة، أما الفيلم الصادق فيبقى. لذلك، مهمتنا كصناع أفلام أن نُظهر الإنسان الفلسطيني بكرامته، لا فقط كضحية. أن ننقل ألمه، لكن أيضًا قوته وإصراره على الحياة.

  • هل تعملون على مشروع أرشفة سينمائية للأصوات والوجوه والتجارب الحيّة لأهالي غزة؟
  • نعم، هذا واحد من أهم المشاريع التي نعمل عليها. نحن في سباق مع الزمن، لأن الاحتلال لا يقتل الناس فقط، بل يقتل ذاكرتهم.

مشروع الأرشفة السينمائية يهدف إلى:

تسجيل شهادات الناجين من المجازر.

جمع مواد مصورة من هواتف الناس.

رقمنة ما تبقى من أرشيف قديم.

تخزين المواد في منصات آمنة خارج فلسطين.

هذه ليست مجرد مواد أرشيفية، بل ذاكرة حية. الطفل الذي تحدث أمام الكاميرا اليوم قد يصبح بعد عشرين عامًا شاهدًا في محكمة دولية. الصورة التي توثق قصف بيت قد تتحول إلى دليل إدانة في لاهاي.

الأرشفة ليست ترفًا، بل واجب وطني.

يحيى بركات، فيتو
يحيى بركات، فيتو
  • كيف يمكن أن تسهم السينما في بناء وعي فلسطيني داخلي يعزز الصمود والهوية، خصوصًا بين الأطفال واليافعين؟
  • السينما ليست فقط أداة للخارج، بل وسيلة تربوية وثقافية للداخل. عندما يُعرض فيلم عن صمود قرية فلسطينية في مخيم، يجد الطفل نفسه جزءًا من الحكاية. هذا يزرع فيه الانتماء ويعزز الهوية.

نحن نعمل على تنظيم عروض في القرى والمخيمات، ونقيم ورش تدريب للأطفال لتعليمهم أساسيات التصوير. كل طفل يحمل كاميرا يتحول إلى شاهد، وكل لقطة يصورها تصبح جزءًا من الأرشيف الوطني.

الوعي لا يُبنى بالشعارات، بل بالصور التي تشبه حياتنا. السينما هنا تصبح مدرسة بديلة تعلّم الأطفال أن يكتبوا روايتهم بأنفسهم، بدل أن تُفرض عليهم رواية الآخر.

  • ما هي أبرز التحديات التي تواجه السينما الفلسطينية اليوم في ظل الحرب والحصار وتقييد الحركة؟
  • التحديات كثيرة ومتراكبة:

1. الحصار وتقييد الحركة: المخرج لا يستطيع التنقل بحرية، والمعدات لا تدخل بسهولة.

2. نقص التمويل المستقل: معظم الدعم الغربي مشروط سياسيًا، بينما الدعم العربي ضعيف ومحدود.

3. تدمير البنى التحتية: الاستوديوهات والمراكز الثقافية تحولت إلى أنقاض.

4. محاولات التطبيع الثقافي: يسعون لإدخال المخرج الفلسطيني في مشاريع مشتركة مع الاحتلال، لتبييض صورته.

رغم ذلك، السينما الفلسطينية مستمرة، لأن روحها لا تعتمد على الإمكانات الكبيرة، بل على الإصرار.

  • ما المطلوب من العالم السينمائي – أفرادًا ومؤسسات – لدعم السينما الفلسطينية الآن؟
  • نطالب بأربع خطوات أساسية:

1. تمويل مستقل بلا شروط: أي دعم مشروط سياسيًا مرفوض.

2. منصات عرض مجانية: فتح شاشات المهرجانات أمام الأفلام الفلسطينية.

3. دعم الأرشفة والتدريب: لنحمي الذاكرة ونبني الجيل الجديد.

4. الضغط لحماية السينمائيين: كثير من المخرجين والمصورين يقتلون أو يُعتقلون أثناء عملهم.

الدعم المطلوب ليس شفقة، بل تضامنًا ثقافيًا وإنسانيًا.

جيل جديد من السينمائيين الشباب

  • هل هناك خطط مستقبلية لجمعية السينما الفلسطينية لتدريب جيل جديد من السينمائيين الشباب في ظل الدمار الكبير؟
  • نعم، لدينا خطط عملية، حيث نعمل على:

برامج تدريبية في المخيمات والجامعات.. ورش عبر الإنترنت بالتعاون مع منصات مثل "سينمابريدج".. توفير كاميرات بسيطة للأطفال والشباب.. بناء شبكة مدربين فلسطينيين وعرب.

هدفنا أن يتحول كل طفل وكل شاب إلى كاميرا شاهدة. فكما قال أحدهم: إذا أردت أن تُسكت شعبًا، اسرق منه ذاكرته. ونحن نرد بأننا سنحول كل فرد إلى حارس لذاكرته.

  •  ما رسالتكم للعالم من خلال هذا الحوار، كممثلين عن صوت الصورة الفلسطينية في وجه الاحتلال والظلم والتعتيم؟
  • رسالتي للعالم واضحة: الاحتلال يملك كل أسلحة القتل، لكنه عجز عن الانتصار في معركة الرواية. سقطت أسطورة "شعب الله المختار" وسقطت عقدة الذنب الأوروبية. حتى اليهود الأحرار أعلنوا أن إسرائيل لا تمثلهم.

هذا الكيان لم يعد يُرى كضحية، بل كجلاد. فاشي، استعماري، يمارس تجويعًا لم تفعله النازية، ويحوّل المساعدات إلى مصائد اغتيال.

لكن هناك نهضة مضادة: الطلاب في الجامعات الغربية، الفنانين في هوليوود، المهرجانات الكبرى، كلها بدأت ترفع الصوت. الاحتلال قادر على القتل، لكنه عاجز عن محو الصورة.

السينما الفلسطينية منذ الثورة وحتى اليوم انتصرت على النسيان. كل فيلم نصنعه انتصار صغير يتراكم ليصنع نصرًا كبيرًا. معركتنا الثقافية والفنية والأكاديمية معركة منتصرة لا محالة.

  • درست السينما في مصر، فمن تتذكر من زملاء تلك المرحلة؟
  • أنا خريج 1978.. زملائي طارق النهري، أحمد الخطيب، محمد النجار، علاء كريم. قام بالتدريس لي حسين فهمي "تكوين فيلمي"، وسعيد الشيخ مونتاج، ومحمود مرسي، ومحمود الشريف، وصلاح أبو سيف، ومحمد بسيوني.
  • كلمة أخيرة؟

- أشكر جريدة “فيتو” على هذا الحوار العميق الذي أتاح لي أن أشارك تجربتي ورؤيتي، وأتمنى أن يكون مادة تساهم في نقل صوت الصورة الفلسطينية إلى القارئ الأفريقي والعربي والعالمي.. هذا الحوار ليس لي وحدي، بل لكل السينمائيين الفلسطينيين الذين جعلوا من الكاميرا جسرًا للذاكرة والصمود. وتبقى الكلمة والصورة هي السلاح الأصدق في مواجهة الظلم والتعتيم".