فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

الملاك البريء.. الصحافة الإسرائيلية تبرئ أشرف مروان من الخيانة العظمى.. تعترف بدوره في نصر أكتوبر.. وهذه كواليس تحالفه مع السادات وإنهاء حياته في لندن

 أشرف مروان
أشرف مروان

فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلي، تتشابك الحكايات كما لو كانت خيوطًا معقدة فى نسيج غامض، وهناك قصص تروى عن معارك دبابات وطائرات، وأخرى عن مفاوضات سرية على موائد السياسة، لكن بين هذا وذاك، ثمة مساحة لا تقل خطورة «الاستخبارات»، هنا تصنع الحروب قبل أن تبدأ، وتكتب الروايات التى تبقى أحيانًا أقوى من القذائف، وفى قلب هذه المساحة، يقف اسم أشرف مروان، الرجل الذى ظل حتى وفاته عام 2007 عنوانًا للغموض وساحة مفتوحة للتأويل، قبل أن تعترف إسرائيل مؤخرًا بالرواية المصرية، وتؤكد أن الرجل حصل منها على معلومات ثمينة وساهم فى هزيمتها فى حرب أكتوبر عام 1973، التى تحل ذكراها الثانية والخمسون خلال أيام.

فما دلالة هذه الشهادة التى تأخرت كثيرا وما دلالة تبرئة صهر الرئيس عبدالناصر من الخيانة العظمى والتواطؤ مع إسرائيل فى حرب أكتوبر؟ السطور التالية تحمل جانبا مهما من سيرة الملاك البرئ..

نشأة على هامش السلطة

ولد أشرف مروان فى القاهرة عام 1944، فى بيت ينتمى إلى الطبقة المتوسطة العليا، ودرس فى كلية العلوم بجامعة القاهرة، ولم يكن مجرد طالب طموح، بل شاب يملك براعة فى بناء العلاقات حتى استطاع عام 1966 الزواج من منى عبد الناصر، ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مما جعله يدخل إلى الدائرة الضيقة لصناع القرار فى مصر فى سن مبكرة جدا.

وبعد مصاهرة الرئيس، أصبح مروان جزءًا من الحياة اليومية لعبد الناصر، ويشارك فى الاجتماعات العائلية واللقاءات الرسمية، وهذا القرب الشخصى مكنه من بناء علاقة ثقة مع ناصر، مما دفعه لتقديم نفسه كمستشار غير رسمى فى بعض القضايا السياسية.

مع مرور الوقت، بدأ مروان فى توسيع دائرة علاقاته لتشمل رجال السلطة البارزين فى عهد عبد الناصر، ومن خلال هذه الشبكة، أصبح يصل إلى معلومات حساسة حول سياسات الدولة وتحركات القيادة، وهذا الوضع جعله فى موقع مثالى للتفاعل مع أجهزة استخباراتية خارجية حال طلبت الدولة المصرية منه ذلك.

تحالف الأذكياء

بعد وفاة عبد الناصر فى عام 1970، تغيرت طبيعة الحياة السياسية فى مصر مع تولى أنور السادات الرئاسة، حيث بدأت تظهر خلافات بينه وبين مروان، خاصة فيما يتعلق بإدارة الملفات الاستخباراتية والعلاقات مع إسرائيل.

هذه التوترات أدت إلى تراجع دور مروان فى الدوائر السياسية المصرية، مما زاد من غموض شخصيته لاسيما أن مروان اعتبر التوتر مع السادات من أهم تحدياته الشخصية للمحافظة على موقعه، وتثبيت نفسه أمام رئيس جديد يحمل مشروعًا سياسيًا مختلفًا تمامًا عن سلفه.

يصف المراقبون العلاقة بين مروان والسادات بأنها وصلت فى النهاية إلى «تحالف ذكي»؛ إذ لم تكن قائمة على الانجذاب الشخصي، بل على المصالح السياسية المشتركة، فالسادات كان بحاجة إلى موثوقين قريبين من قلب السلطة السابقة للوصول إلى تركيبة الدولة والمؤسسة العسكرية، ووجد فى مروان حلقة وصل مهمة، والأخير من جانبه، استغل هذه الثقة لتعزيز مكانته والتوسع فى شبكة اتصالاته، بما فى ذلك علاقاته الخارجية.

ترصد تقارير ومذكرات موثقة، أن السادات كان يثق بمروان فى تزويده بمعلومات دقيقة، سواء داخل الدولة أو فى الخارج، وهو ما منح مروان موقعًا فريدًا بسبب قدرته على الموازنة بين الولاء الشخصي، الواجب الوطني، والطموح السياسي، مما جعله لاعبًا صامتًا فى قلب صراعات ما بعد عبد الناصر، ومؤثرًا فى صياغة المعلومات التى وصلت إلى أجهزة المخابرات الإسرائيلية واستخدمتها مصر لتضليل الطرف الآخر.

هكذا لم يكن مروان بالنسبة للسادات مجرد صهر للرئيس السابق، بل كان رابطًا حيويًا فى شبكة السلطة والاستخبارات.

تعاون أشرف مروان مع إسرائيل

بحلول أواخر الستينيات، بدأ مروان التواصل مع جهاز الموساد الإسرائيلى وفقًا لكتاب «الملاك» للباحث الإسرائيلى أورى بار-جوزيف، حيث قدم مروان نفسه للموساد كمصدر رفيع المستوى داخل النظام المصري، وبدأ فى تزويدهم بمعلومات حساسة.

وبحسب الرواية المصرية المدعومة بأبحاث ودراسات غربية محايدة، سرب مروان معلومات محددة بعناية لتضليل إسرائيل، حيث عمل على تزوير توقعات إسرائيل حول نوايا مصر العسكرية، وأمدها بتقارير ناقصة أو مضللة حول خطط التحرك قبل حرب أكتوبر 1973، وهذا ما يفسر لماذا وصفت الحرب كمفاجأة استراتيجية لإسرائيل رغم المعلومات التى كانت بحوزته، والإجابة أنه كان أداة استخباراتية مصرية محكمة، استخدمت المهارة والذكاء لتحويل نقاط القوة الإسرائيلية إلى ضعف استراتيجي.

وما يدعم الرواية المصرية أن مروان عاش فى القاهرة طوال فترة عمله، ولم يزر إسرائيل بشكل رسمي، وجميع اتصالاته كانت ضمن عمليات سرية منسقة مع المخابرات المصرية، وبحسب دراسات تحليلية، كان كل ما يرسله للموساد محسوبًا مسبقًا ضمن خطة القاهرة للتضليل، وهى خطة أظهرت ذكاء استراتيجيًا فائقًا فى صعوبة اختراق إسرائيل لمخططاتها، حيث استطاعت مصر استخدام الجاسوسية الذكية فى خدمة مصالحها، حول اختراقه للموساد إلى أداة وطنية محكمة.

لغز مروان فى الرواية الإسرائيلية

تقول الرواية الإسرائيلية إن مروان تواصل بنفسه مع الموساد فى أواخر الستينيات عبر السفارة الإسرائيلية فى لندن، مقدمًا نفسه باعتباره «مصدر» لديه ما يقدمه، وفى البداية قوبل عرضه بالريبة، لكن مع الوقت أصبح بالنسبة لهم «الملاك» أو «الإنجيل»، وهو اللقب الذى أطلقوه عليه.

وبحسب شهادات إسرائيلية، قدم مروان معلومات لا تقدر بثمن، وتفاصيل عن صفقات سلاح سوفيتية، وخططا لإعادة بناء الجيش المصرى بعد هزيمة 1967، وحتى محاضر اجتماعات سرية على مستوى القيادة كما يقول أورى بارجوزيف، الباحث الإسرائيلى المعروف، ووصفه فى كتابه “The Angel” بأنه  «أثمن مصدر فى تاريخ الموساد».

لكن هنا يبرز السؤال: إذا كان أشرف مروان بالفعل أثمن مصدر، لماذا فشلت إسرائيل فى منع الهجوم المصرى  السورى يوم السادس من أكتوبر 1973!

قصة العميل المزدوج

الإجابة على هذا السؤال هى التى ولدت الصراع على سردية تجنيد مروان، فإسرائيل لسنوات طويلة اعتبرته «عميلها الذهبي»، والوثائق التى وصلت لمكاتبها كانت أصلية وبعضها دقيق، وضباط الموساد المتقاعدون كتبوا فى مذكراتهم عنه باعتباره الرجل الذى أمدهم بأسرار الدولة المصرية.

لكن القاهرة ومعها كثير من الباحثين الغربيين، روت الحدث بشكل مغاير، إذ تؤكد السردية المصرية أن مروان كان جزءًا من خطة خداع كبرى، هدفها تضليل إسرائيل، والمعلومات التى زود بها الموساد كانت خليطًا من الصحيح والباطل، لكن بتوقيتات مختلفة أو تفاصيل ناقصة وبذلك ساهم فى زرع ثقة زائفة فى أذهان الإسرائيليين حتى جاء يوم الحرب، اللافت فى الأمر أن كتابا ومفكرين كبارا مثل محمد حسنين هيكل ومصطفى الفقى تورطوا فى الإساءة والتشكيك فى «مروان» بشكل أو بآخر.

استمر الجدل ولم يتوقف عند هاتين السرديتين، حتى أعادت صحيفة «يديعوت أحرونوت» ذائعة الصيت فى إسرائيل مؤخرا فتح الملف عبر تحقيق موسع استند إلى وثائق استخباراتية غير منشورة من قبل، وخلصت الصحيفة إلى أن مروان لعب دورًا كبيرا فى تضليل الاستخبارات الإسرائيلية، وهو ما يتقاطع بشكل لافت مع ما كانت القاهرة تؤكده منذ عقود.

سر إصرار إسرائيل على رواية الخيانة

فى نظر إسرائيل، الاعتراف بأن مروان كان جزءًا من خطة خداع مصرية، يعنى التسليم بفشل استخباراتى كارثى سبق حرب أكتوبر، ولذلك كان أسهل أن يقدم للرأى العام كخائن لمصر، لا كبطل خدع الموساد، ووجود وثائق أصلية بخط يده يعزز هذا التصور، لكن التحقيقات الحديثة كشفت أن تلك الوثائق لم تكن دومًا حاسمة، وبعض المعلومات التى نقلها كانت تؤدى إلى نتائج مضللة، فمثلًا عشية حرب أكتوبر، أبلغ الإسرائيليين بتحذير من هجوم مصرى  سوري، لكن توقيته جعل القيادة العسكرية الإسرائيلية تتعامل معه كإنذار روتينى لا يستدعى تعبئة كاملة، والنتيجة كانت فى المفاجأة الكبرى على الجبهة.

وحتى نفهم قصة مروان، لا بد من وضعها ضمن مسار أطول من الصراع المخابراتى بين مصر وإسرائيل، فمنذ عام 1948، كان الصراع الاستخباراتى حاضرًا بعمق، إذ فى حرب السويس 1956، لعبت المعلومات الاستخباراتية دورًا محوريًا فى التنسيق بين إسرائيل وبريطانيا وفرنسا.

وفى نكسة 1967، اعتمدت إسرائيل على تفوقها فى جمع المعلومات، فيما عانت مصر من ضعف استخباراتى أدى إلى الفاجعة، لكن مصر ردت الصاع أضعافا خلال حرب الاستنزاف 1968–1970، حيث بدأ جهاز المخابرات المصرى فى استعادة توازنه، من خلال عمليات نوعية مثل زرع أجهزة تنصت وإدارة حرب أعصاب.

ثم جاءت حرب أكتوبر، التى لم تكن مجرد انتصار عسكري، بل أيضًا انتصار فى معركة الخداع الاستراتيجي، حيث نجحت مصر فى إخفاء نواياها حتى اللحظة الأخيرة، لذا فإن قصة أشرف مروان تقف على تقاطع كل هذه المراحل، بين ضعف ما قبل 1967، وإتقان الخداع الذى قاد إلى نصر 1973.

سقوط «الملاك» الغامض فى لندن

ظل مروان شخصية مثيرة للجدل حتى بعد أن ترك العمل الرسمي، حيث جمع ثروة كبيرة، وانخرط فى أعمال تجارية وعلاقات مع شركات ودول، لكن فى 27 يونيو 2007، انتهت حياته فجأة حين عثر عليه جثة هامدة أسفل شرفة شقته الفاخرة فى لندن، والشرطة البريطانية وقتها قالت إن الوفاة نتيجة «سقوط»، لكنها لم تحسم إن كان انتحارًا أم حادثًا أم اغتيالًا، لكن شهادات تحدثت عن أشخاص شوهدوا فى المكان، وتقارير صحفية أشارت إلى اختفاء وثائق من شقته، وعائلته وعلى رأسها زوجته منى عبد الناصر، أصرت على أنه «اغتيل».

الغموض حول وفاته بدا امتدادًا طبيعيًا لحياته، رجل قضى عمره بين السرية والعلن، وكان لا بد أن يرحل فى ظروف تزيد الأسئلة ولا تقدم إجابة، ومع ذلك فالخبر صدم العالم الاستخباراتي، وأثار جدلًا واسعًا حول طبيعة الوفاة، هل كانت حادثًا، انتحارًا، أم تصفية مخطط لها، وهذا الغموض أضاف بعدًا جديدًا لشخصيته، وجعل وفاته بمثابة محور لإعادة تقييم دوره فى الصراعات الإقليمية.

والجانب الإنسانى أيضًا لا يمكن تجاهله، فقد خلف مروان وراءه أسرة عايشت صدمة فقدان رجل جمع بين الخطر المهني، الولاء الوطني، والرهانات السياسية الحساسة، وهذه الخسارة ألقت الضوء على الضغوط النفسية الهائلة التى يتحملها كل من يقرر أن يعمل فى دائرة التوازن الدقيق بين الوطن والخطر، وبين السرية والظهور العلني.

وفى النهاية تظل وفاة أشرف مروان درسًا استراتيجيًا وإنسانيًا فى آن واحد، درس فى قدرة الفرد على التأثير فى الصراعات الكبرى عبر ذكاء حاد وتخطيط محكم، ودرس فى هشاشة الحياة أمام أسرار الجاسوسية، حيث يصبح الموت أحيانًا جزءًا من اللعبة نفسها، إذ حتى الآن ما يبقى من قصة أشرف مروان ليس حقيقة واحدة واضحة، بل شبكة من الروايات، إسرائيل الرسمية ترى فيه «الخائن»، ومصر تراه «البطل»، والباحثون الغربيون يتأرجحون بين الاحتمالين، لكنه فى النهاية ساهم فى صياغة لحظة تاريخية حاسمة.

والأكيد أن اسمه سيبقى رمزًا لصراع الاستخبارات فى الشرق الأوسط، ودليلًا على أن الحرب لا تخاض فقط بالدبابات والطائرات، بل أيضًا بالعقول والظلال، وفى كل قراءة جديدة للوثائق، يعاد اكتشاف مروان من جديد، وفى كل تحقيق صحفى أو كتاب أكاديمي، تتغير صورته قليلًا، لكنه رغم مرور السنوات، ما زال حاضرًا، كأحد أكثر الألغاز إثارة فى تاريخ المنطقة.

ترويج الأكاذيب

إلى ذلك..يقول الدكتور أحمد فؤاد أنور، أستاذ العبرى بجامعة الإسكندرية والخبير بملف الصراع العربى الإسرائيلي، إن إسرائيل كعادتها تسعى دائمًا لترويج الأكاذيب من خلال ترويج الاتهامات حول أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس جمال عبد الناصر، بأنه كان جاسوسًا لإسرائيل وأنه أبلغها بموعد حرب أكتوبر، وهذه الرواية الإسرائيلية ثبت عدم صحتها بدليل أن مصر شاركت فى جنازته، والرئيس مبارك كان يدرك الدور الذى يقوم به أشرف مروان من أجل مصر، بل إن أشرف مروان كانت علاقته جيدة بالقذافى الذى سمح له بالاستثمار فى ليبيا.

ويضيف أحمد فؤاد أنور أن جريدة يديعوت أحرونوت روجت لهذه الأكاذيب الإسرائيلية عن أشرف مروان لتضليل الشعب الإسرائيلى نفسه وإشغاله، وهذا كلام سبق لنا قوله منذ 10 سنوات، لأن أشرف مروان شارك فى تضليل إسرائيل وجيش الاحتلال، حيث كان بوسعه أن يقول إن حرب أكتوبر اقتربت بالشفرة دون الحاجة للسفر إلى لندن، وبالتالى هو ساهم فى تضليل إسرائيل قبل حرب أكتوبر، مما جعلها لا تقوم باستدعاء الاحتياط، فكانت الضربة التى أنهكتها.

وواصل حديثه قائلًا: الحقيقة الثابتة أن هناك ثأرًا بين إسرائيل وأشرف مروان، لأنه ينتمى إلى أسرة الزعيم جمال عبد الناصر الذى لعب دورًا فى تضليلهم خلال حرب أكتوبر، فضلًا عن أنه أحد مؤسسى تنظيم ثورة مصر مع خالد جمال عبد الناصر، والذى كان يستهدف القضاء على الإسرائيليين فى مصر من خلال تولى أشرف مروان كممول لهذا التنظيم، وبالتالى يجب فتح التحقيق فى ملابسات قتل أشرف مروان.

وأختتم: الاعترافات الإسرائيلية تؤكد أن أشرف مروان جزء من خطة الخداع الاستراتيجى المصرية، وتفسير ذلك يعود إلى رئيس الأركان الإسرائيلى الذى يريد إرسال رسائل عبر الإعلام أن مصر انتصرت فى حرب أكتوبر، وإسرائيل فشلت فى تجنيد أشرف مروان على مدار 50 عامًا.