حكم الجهر بالأذكار في الأماكن العامة
الذكر عبادة عظيمة، فهو من أفضل وأحسن الأعمال، ومن رحمة الله - تعالى- أن شرح لعباده الذكر بأنواعه؛ من التسبيح، والتهليل، والحمد، والحوقلة، وكل ذلك رتّب عليه -عز وجل- أجورا عظيمة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، وقال عز وجل: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)، كما تعتبر الأذكار فرصة جديدة للتقرب من الله، ينبغي على المسلم أن يكثر منها في كل وقت وحين، ولكن ما حكم الجهر بالأذكار خصوصا في الأماكن العامة، وما حكم ترديدها علانية هذا ما سنتعرف عليه من خلال هذا الموضوع، فإلى التفاصيل….

فضل المحافظة على أذكار الصباح والمساء والحث عليها
حثَّ الشرع الشريف على الإكثار مِن الذكر في كلَّ الأوقاتِ وأنواعِ الذكر؛ فقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41]. ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب: 42]. ونحو ذلك من الآيات التي تدل على الأمر بأذكار الصباح والمساء مع تنوع المترادفات الدالة عليها؛ للدلالة على عظمها، إذ كثرة المسميات تدل على شرف وعِظَمِ المسمَّى.
كما حضَّ الشارع على أذكار الصباح والمساء في مواضع آخر من كتابه الحكيم؛ فقال تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» [ق: 39]، وقال تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» [طه: 130].
وفي المداومة على الأذكار حياة للقلب، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ"(أخرجه البخاري]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"(أخرجه مسلم) قال في فتح الباري: "الَّذِي يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ حَقِيقَةً هُوَ السَّاكِنُ لَا السَّكَنُ وَأَنَّ إِطْلَاقَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِي وَصْفِ الْبَيْتِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ سَاكِنُ الْبَيْتِ فَشَبَّهَ الذَّاكِرَ بِالْحَيِّ الَّذِي ظَاهِرُهُ مُتَزَيِّنٌ بِنُورِ الْحَيَاةِ وَبَاطِنُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَغَيْرَ الذَّاكِرِ بِالْبَيْتِ الَّذِي ظَاهِرُهُ عَاطِلٌ وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ".
وفيها كذلك: تنشيط للقيام بالعمل الشاق، ودليل ذلك حديث علي -رضي الله عنه- أنَّ فاطمة -رضي الله عنها- اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن؛ فبلغها أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُتي بسبي فأتت تسأله خادمًا فلم توافقه، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: "عَلَى مَكَانِكُمَا" حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ"(متفق عليه).
وفي كثرة الذكر والمداومة على الأذكار: ابتعاد للشيطان عن ابن آدم.
حكم ترديد الأذكار في جماعة
السنة أن يأتي بها منفردا فلا يشرع ذكرها مع الإمام أو جماعة المسجد؛ لأن هذا الذكر لا يشرع فيه الاجتماع فينبغي على المسلم أن يذكرها بنفسه ولا يتقيد بجماعة وإنما يباح له متابعة غيره إذا كان جاهلا بنطقها على سبيل التعليم والتلقين.
وينبغي على الذاكر أن يأتي بالأذكار بتؤدة وتأن وتعقل وتفهم لينشرح صدره وتأنس روحه ويذوق حلاوة الإيمان ولا يليق به أن يهزها هز الشعر فيسرع بذكرها من غير حضور قلب وتفهم حتى لا يصبح كلامه لغوا لا فائدة فيه ومجرد عادة كحال بعض الناس.
والسنة أن يأتي بها بصوت منخفض بحيث يسمع نفسه ولا يجهر بها في حضرة الناس حتى لا يشوش عليهم ويؤذيهم كما قال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

حكم الجهر بالأذكار في الأماكن العامة
اختلف الفقهاء فى حكم رفع الصوت والجهر بالذكر على قولين:
القول الأول: أنَّ رفع الصوت والجهـر بالذكــر جائز، لكن الأفضل أن يراعى مقدار رفع الصوت المأذون به فى الذكر، فلا يجهر بالذكر فوق ما يُسمع نفسه إلا فى المواضع التى ورد فيها الجهر، بمثل هذا قال بعض الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
واستدلوا على جواز الجهر ورفع الصوت بالذكر بما ورد أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم ذكر عن رب العزة فى الحديث القدســـى أنه يقول " أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا ذكرنى؛ فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإن ذكرنى فى ملإٍ ذكرته فى ملإٍ خيرٍ من الذى ذكرنى فيه " وبحديث النبى صلى الله عليه وسلم " إن لله ملائكةٌ يطوفون بالطرق يلتمسون أهل الذكر.
ووجه الدلالة من الأحاديث السابقة، أنَّ هذه الأحـاديث تدل على جواز الجهر ورفع الصوت بالذكر، والذكر فى الملأ لا يكون إلا عن جهر.
واستدلوا كذلك بحديث ابن عباس رضي الله عنه الذى فى الصحيحين؛ أنه قال إنَّ رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة (يعنى أذكار دبر الصلاة) كان على عهد النبى صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضا بحديث أنه صلى الله عليه وسلم " مر رجل به صلى الله عليه وسلم وكان يرفع صوته بالذكر فقيل له يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائيا فقال لا ولكنه أواه " وهذا حديث رواه الإمام أحمد فى مسنده والطبرانى فى الكبير.
واستدلوا أيضا بحديث أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال " كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر فارتفعت اصواتنا بالتكبير فقال يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده " [صحيح البخارى].
القول الثانى: الجهر بالذكر بدعة إلا فى المواضع التى ورد فيها الجهر قال بهذا القول الإمام أبو حنيفة وقال رحمه الله إن رفع الصوت بالذكر بدعة يخالف الأمر من قول الله تعالى {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } فينبغى أن يقتصر فيه على ما ورد فى الشرع واستدلوا على هذا كما هو بين من كلام الإمام بأن الذكر ينبغى أن يكون خيفة، وينبغى أن يكون الجهر ممنوعا لأن الله عز وجل قال ودون الجهر من القول.
والأرجح فى هذه المسألة والله أعلم هو جواز رفع الصوت بالذكر لكن الأفضل للذاكر أن يراعى مقدار رفع الصوت المأذون به.