المصداقية والحرية والاقتصاد ثلاثية بقاء المهنة، عبد المحسن سلامة يطرح رؤية شاملة لتطوير الصحافة والإعلام
قدّم الكاتب الصحفي عبد المحسن سلامة، عضو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ونقيب الصحفيين السابق، ورقة عمل مهمة بعنوان "رؤية حول مستقبل تطوير الصحافة والإعلام"، عرضها أمام المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
تناولت الورقة بإسهاب التحديات التي تواجه المهنة في ظل الطفرة الرقمية، وقدمت تصورًا متكاملًا للنهوض بها، مع التأكيد على أن الصحافة والإعلام سيظلان ركيزة لا غنى عنها في المجتمع مهما تغيرت الأدوات والوسائل.
الصحافة بين التحديات والضرورة
أكد سلامة في بداية ورقته أن مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتطوير الإعلام تعكس إيمان القيادة السياسية بالدور الاستراتيجي للصحافة، مشيرًا إلى أن تعريف الصحافة في رؤيته يتجاوز الشكل التقليدي ليشمل الصحافة المطبوعة والإلكترونية والمسموعة والمرئية وصحافة المواطن.
وتساءل سلامة: هل ما زال هناك مستقبل للصحافة والإعلام أمام المد الجارف لوسائل التواصل الاجتماعي واعتماد الأجيال الجديدة على الهواتف المحمولة؟ ليجيب بأن الصحافة ستبقى مهنة لا بديل عنها، لأنها الأقدر على تقديم التغطية المهنية في الحروب والأزمات والنزاعات، وكذلك في الأحداث الرياضية والفنية، وهي مجالات لا يمكن للسوشيال ميديا أن تؤدي دورًا احترافيًا فيها.
وأضاف أن مواقع التواصل باتت مليئة بالشائعات والأخبار المضللة، وهو ما يعزز قيمة المصداقية والموضوعية كمدخل رئيسي لعودة الصحافة والإعلام إلى مكانتهما، مؤكدًا أن التطوير ضرورة لا مفر منها للحفاظ على المهنة.
أولًا: تطوير المحتوى
شدد سلامة على أن جوهر النهوض بالصحافة يكمن في تطوير المحتوى، عبر التوسع في الأشكال الصحفية العميقة مثل التحقيقات الاستقصائية والدراسات والأبحاث، وهي أعمال تتطلب فرق عمل منظمة وجهدًا ممتدًا لا يمكن أن تنافسه السوشيال ميديا بطابعها الفردي.
كما دعا إلى زيادة مساحات مقالات الرأي التي تحظى بنسب قراءة مرتفعة، وإلى مراجعة أزمة "المحتوى المعلب" الذي يهيمن على الصحافة المصرية بسبب الاعتماد على المواد الجاهزة من مجموعات التواصل، مؤكدا أن رفع سقف الحريات شرط أساسي لصحافة قوية ومؤثرة، مع الالتزام بالمعايير المهنية وميثاق الشرف الصحفي.
ثانيًا: قانون تداول المعلومات
وأوضح سلامة أن إصدار قانون حرية تداول المعلومات يمثل أولوية قصوى، لأنه يتيح للصحفيين الوصول إلى البيانات الدقيقة من مصادرها الرسمية، ويغلق الباب أمام نشر معلومات مغلوطة. واعتبر أن هذا القانون، وهو من القوانين المكملة للدستور، سيكون أداة رئيسية لترسيخ المحاسبة والشفافية.
ثالثًا: الأوضاع الاقتصادية للمؤسسات
أكد سلامة أن التطوير لن يتحقق دون معالجة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها المؤسسات الصحفية، فالتحديث يحتاج إلى موارد مالية لتطوير البنية التكنولوجية وتدريب الصحفيين ورفع مستوى المعيشة داخل المؤسسات.
وأشار إلى أن المؤسسات القومية تملك مقومات أفضل من غيرها بفضل أصولها وإمكاناتها، إذا ما جرى استغلالها بفعالية وتنويع مصادر الدخل دون الإخلال بالنشاط الصحفي، واستشهد بتجربة مؤسسة الأهرام التي أثبتت إمكانية تحقيق التوازن المالي عبر استثمار الأصول وتنويع التمويل.
كما عرض سلامة تجارب عالمية في التمويل، مثل دعم الدول لشبكات إعلامية كبرى (الجزيرة، العربية، سكاي نيوز، روسيا اليوم، بي بي سي، دويتشه فيله)، أو امتلاك مجموعات اقتصادية كبرى لصحف ومجلات مؤثرة كما في إيطاليا والولايات المتحدة.
رابعًا: أزمة التوزيع
توقف سلامة أمام تراجع معدلات توزيع الصحف، مرجعًا ذلك إلى اختفاء بائع الصحف التقليدي وتراجع أرباحه، وإلى ضعف شركات التوزيع التابعة للمؤسسات القومية، واقترح دمج هذه الشركات أو تطويرها في كيان حديث قادر على المنافسة، مع فتح منافذ جديدة للتوزيع في محطات البنزين والسوبر ماركت والمطارات والطائرات كما كان يحدث سابقًا.
وأكد أن غياب الصحف عن متناول القارئ يسهم تدريجيًا في تراجع مكانتها، ما يفرض ضرورة إعادة النظر في منظومة التوزيع كشرط لإنعاش الصحافة الورقية.
خامسًا: الاستفادة من التجارب العالمية
شدد سلامة على أهمية دراسة التجارب الدولية التي أثبتت نجاحها رغم التحديات التكنولوجية، مثل اليابان التي لا تزال صحفها توزع ملايين النسخ يوميًا، والهند التي يشهد سوقها نموًا متصاعدًا، إلى جانب تجارب الصحف الغربية التي عوضت تراجع التوزيع الورقي بالتوسع في الاشتراكات الرقمية والإصدارات الإلكترونية.
وأشار إلى أن مصر في حاجة ماسة إلى الاستفادة من هذه التجارب وتطويعها بما يتناسب مع واقعها، خاصة في ظل تفشي الأمية الأبجدية والثقافية، وخطورة الاعتماد العشوائي على السوشيال ميديا كمصدر وحيد للأخبار.
خلاصة الرؤية
اختتم سلامة ورقته بالتأكيد على أن تطوير الصحافة والإعلام ضرورة وطنية وليست ترفًا، وأن تجاهل التطوير سيضاعف التحديات ويهدد بقاء المهنة نفسها، معتبرا أن الطريق يبدأ من استعادة المصداقية والموضوعية، وتوفير بيئة مهنية قائمة على حرية المعلومات والاستقلال الاقتصادي، حتى تظل الصحافة والإعلام حصنًا للحقيقة وركيزة للحفاظ على الهوية الفكرية والثقافية للمجتمع المصري.