فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

دراكولا يسرق التاريخ (1)

 كلما استشرى عنفوان الألم الناجم عن عدوان العصابات الصهيونية على الفلسطينيين، زاد الإصرار على المقاومة والصمود، وكلما تفاقمت الخسائر البشرية والمادية تمسك أصحاب الأرض والقضية المشروعة بمطالبهم في الحياة كراما.. الضربات لا تزيدهم إلا يقينا بأن النصر مع الصبر، وإيمانا بأن مع العسر يسرا، ومع انسداد الآفاق فرجا قريبا.. 

 

هنا أنقل كلمات تثير الشجون للدكتور يحيى بركات، المؤلف والمخرج، ورئيس جمعية السينما الفلسطينية: 
"السماء مثقلة بالدخان، والأرض مثقلة بالدم.. غزة تمشي على جمرها، لا تملك إلا أن تحيا رغم أنف الموت.. الكيان الفاشي يرقص على أنقاض البيوت، يظن أنه دولة، وهو في الحقيقة عصابة من اللصوص والقتلة والمتطرفين. كذبة صنعها الغرب ليغطي عجزه وخوفه، كذبة تمادت حتى أكلت نفسها من الداخل، حتى تحوّلت إلى مرآة نازية تعكس أبشع ما في التاريخ.


العرب يتفرجون بين حسابات السياسة والكرسي، والمسلمون ينشغلون بخلافاتهم القديمة، لكن العالم يرى، يرى الشوارع الغربية وهي تهتف ضد الإبادة، يرى فنانين يعلّقون لوحاتهم على جدران غزة المهدمة، يرى أساطيل صغيرة تبحر بقلوب كبيرة، يرى الناس العاديين يرفعون أصواتهم في ميادين بعيدة، يقولون: لسنا صامتين.. غزة، وحدها، تحوّلت إلى شاشة عالمية تعرض فيلم الحقيقة بلا مؤثرات". 


كنا نظن، وبعض الظن إثم، أن جرائم النازي الصهيوني تقتصر على قتل البشر، لكن المجرم اعتاد الإرهاب، والتلذذ بطعم الدماء، واستعذب الكذب، والاحتيال والتزوير، فأقدم على سرقة التاريخ، وانتحال أدلة الحضارة زورا، وبهتانا.


القاتل المرعب دراكولا اقتصرت جرائمه على مصِّ دماء ضحاياه، لكن القاتل الصهيوني، الذي استباح إزهاق الأرواح، تحول إلى سارق، وهذه المرة اتجه إلى سرقة الإرث الحضاري الفلسطيني، وتاريخ هوية ممتدة عبر آلاف السنين.


التحقيق الذي نشرته "فيتو" قبل أيام بعنوان: "الاحتلال الإسرائيلي يسرق الأثر ويبيد البشر.. يفجر المساجد والكنائس ويهرب الآثار إلى تل أبيب.. الزي الشعبي «بالقائمة».. خبراء فلسطينيون يكشفون لـ«فيتو» تفاصيل الجريمة.. واليونسكو عاجزة عن التحرك"، أثار ردود أفعال كبيرة، وكثيرة.


من بين ذلك ما تلقيته من الدكتور عزام أبو سلامة، رئيس جمعية الزي الفلسطيني، واسم الجمعية يوحي بما جاء للحضارة العربية الفلسطينية من أسرار وأغوار متغلغلة في الحياة اليومية لهذا الشعب العريق.


يقول د. عزام: أتحدث عن إرث حضاري، ترك بصمته في كل ركن، من حجر وأغنية وثوب مطرز، فمن يمشي في أزقة القدس القديمة، أو يتأمل حجارة الكنائس والمساجد في بيت لحم والخليل، أو ينظر إلى ثوب فلسطيني مطرّز بخيوط حمراء وسوداء حملته الجدات من جيل إلى جيل، يدرك أن فلسطين ليست مجرد أرض، بل ذاكرة حية تسكن تفاصيل الحياة اليومية.


هذه الذاكرة ليست محفوظة في الكتب فقط، بل منسوجة في نقوش الأثواب، مطبوعة في خيطان الكوفية، وحاضرة في ألوان التطريز التي تروي حكاية كل مدينة وقرية ومخيم.. الزي الفلسطيني، بما يحمله من رمزية عميقة، أصبح أحد أبرز شواهد الهوية ومقاومة محاولات الطمس، لأنه ليس مجرد لباس تقليدي، بل لغة بصرية تؤكد انتماءنا للأرض وتختزن في نقوشها التاريخ والجغرافيا والذاكرة.


غير أن هذه الرواية الفلسطينية تتعرض اليوم لحرب ممنهجة تستهدف وجودها، حرب لا تقتصر على القصف والتدمير المباشر للمواقع الأثرية والمباني التاريخية، بل تتجاوز ذلك إلى سرقة القطع الأثرية وتهويد المناطق التاريخية وتزوير السرديات لتبدو وكأنها غير فلسطينية.. 

فالمعركة لم تعد فقط على الأرض، بل باتت معركة على الوعي والتاريخ والهوية، حيث يحاول الاحتلال إعادة تسويق المأكولات الشعبية والأزياء الشعبية الفلسطينية، وفي مقدمتها الأثواب المطرزة، على أنها جزء من ثقافة إسرائيلية.
هذه ليست تفاصيل ثانوية يمكن تجاوزها، بل جزء من حرب شاملة على الهوية والإرث الفلسطيني، حرب وجود تتطلب سؤالًا جوهريًا.. ونستكمل إن شاء الله.