فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

فنان الشعب & بيتهوفن مصر.. سيد درويش صنع تاريخًا إعجازيًّا خلال ست سنوات.. وبليغ حمدي ملحن الأساطير

بليغ حمدي وسيد درويش
بليغ حمدي وسيد درويش

يكاد يكون سيد درويش وبليغ حمدى هما الأكثر تأثيرًا فى تاريخ الموسيقى المصرية؛ بما قدماه من منجزات فنية غير مسبوقة ولا تزال خالدة وملهمة للأجيال الجديدة، ولا تسقط بالتقادم. 

درويش وحمدى تحل ذكرى رحيلهما هذه الأيام؛ فالأول رحل فى عنفوان الشباب عام 1923، والثانى غيبه الموت عام 1993. 

ورغم الرحيل البعيد الذى يتجاوز قرنًا من الزمان لدرويش، وأكثر من 30 عامًا بالنسبة لحمدي، فإنهما لا يزالان نجمين بارزين فى سماء المزيكا.

سيد درويش فنان الشعب الذى قال كلمته ورحل فى عنفوان الشباب، موسيقى الجماهير المضطهدة، عكست ألحانه معاناة المرأة المصرية، واتخذ من الغناء وسيلة للإصلاح الاجتماعي.

ألقى درويش القصعة وقرر احتراف الغناء، حضر إلى القاهرة فى عام 1914 وتعرف على المسرحى جورج أبيض وقدم معه مسرحية “فيروزشاه” وألف بعدها موسيقى عشرين أوبريت أخرى منها: الباروكة والدرة اليتيمة وغيرهما. فى بداياته سافر سيد درويش إلى الشام عام 1912 ليتعلم أصول التخت الشرقى، وعاد ليبدأ مرحلة ولادة الألحان من خلال العديد من المسرحيات مثل: “الأندلس” و”فيروزشاه”، ثم تلحينه لأغانى مسرحية الريحانى “ولو” التى اشتهر من خلالها بأنه مطرب الحرفيين، ويذكر أنه سمع ذات مرة بائعا فى حى بولاق ينادى على بضاعته فطلب من بديع خيرى كتابة أغنية صعيدية، فكانت: “مليحة جَوِى الجُلَل الْجِنَاوى”، بعد ذلك كون سيد درويش فرقة مسرحية، ومن خلالها قدم العديد من الأعمال، مثل “شهرزاد”، و”العشرة الطيبة”، و”الباروكة”.

جعل سيد درويش من الغناء وسيلة للجهاد الوطنى والإصلاح الاجتماعى إلى جانب الطرب، فلحن نشيد (أنا المصرى كريم العنصرين... بنيت المجد بين الأهرامين)، وغنى لمجتمع العمال وعبر عن الشعب بجميع أطيافه فغنى للعربجية، الجرسونات، الحشاشين، المجانين، بياعين اللبن، البوابين، السياسيين، بياع الورد، الأفندية، الرشايدة، الصعايدة، يصف الفنان سيد درويش نفسه ويقول: أنا موسيقى الجماهير المضطهدة، وموسيقاى تمثل صراخهم وآمالهم وأحلامهم وآلامهم. إضافة إلى ذلك، غنى الشيخ سيد درويش ضد الاحتلال الإنجليزى بنشيد “دقت طبول الحرب”، كما انتقد سياسة الاحتلال فى تجنيد الشباب المصرى فغنى “بلدى يا بلدى والسلطة أخذت ولدي”، فكان صوت الشعب.

ست سنوات فقط هى عمر فنان الشعب سيد درويش منذ بداية عمله الفنى عام 1917 حتى رحيله فى 1923، قدم خلالها ما يزيد على مائتى لحن، كان آخرها تلحين الفصل الأول من مسرحية كليوباترا وأنطونيو التى أتم تلحينها الموسيقار محمد عبد الوهاب، إلى جانب 20 أوبريتا، 10 أدوار، 17 موشحا وأكثر من عشرين مقطوعة غنائية، كما عبرت ألحان الشيخ سيد درويش عن المرأة المصرية التى كانت تعانى الاضطهاد والتمييز فقال: ده يومك يا بنت اليوم.. قومى اصحى من النوم / اشمعنى فى أوروبا الستات لها أصوات فى الانتخابات / دا المصرية ست فى بيتها.. وفى رباية أولادها سبقت غيرها.

لحن سيد درويش نشيد بلادى بلادى.. لك حبى وفؤادى، من كلمات يونس القاضى، ففى الوقت الذى كانت تستعد فيه الإسكندرية لاستقبال الزعيم سعد زغلول عند عودته من المنفى استعد سيد درويش بلحنه الرائع “بلادى بلادى لك حبى وفؤادي”، ورحل قبل أن يسمع سعد زغلول النشيد الذى أصبح فيما بعد نشيد مصر الوطنى.

ترك سيد درويش تراثا موسيقيا كبيرا ويغنى الشعب ألحانه، قدم أغانى ومقطوعات من التخت الشرقى الخالص، وأناشيد كلها مستوحاة من البيئة التى يعيش فيها، وهو ما جعل الشعب يحفظها عن ظهر قلب ويرددها إلى الآن، وقال عنه الفنان سلامة حجازى: عندما أشترك معه فى رواية العشرة الطيبة: هذا الفتى سيصبح له شأن عظيم.

قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن، فسيد درويش هو من جعلنى أستمع للغناء بحسى وعقلي، بعد أن كنت أستمع إليه بحسى فقط.. إنه فكرة العصر التى لولاها ما لحن الملحنون بالأسلوب الذى يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة والحقيقية للأعمال المسرحية المصرية.

ووصفه المايسترو سليم سحاب فقال: سيد درويش هو أول من ترجم الأحاسيس الشعبية إلى ألحان، وأول موسيقى عربى شمولى من ناحية معرفته بالمدارس الموسيقية العربية الهامة خارج مصر، لكن إنجازه الأهم هو تخليص الموسيقى العربية نهائيًا من اللكنة الموسيقية التركية التى سيطرت عليها، بوقت وجيز، وكان يحتاج عشرات السنين.

من جانبه، أعلن وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو تخصيص يوم الخامس عشر من سبتمبر من كل عام ليكون “اليوم المصرى للموسيقى”، ليضاف بذلك إلى الأجندة الثقافية والفنية المصرية وتأتى هذه الخطوة النوعية فى إطار حرص الدولة على تعزيز مكانة الموسيقى المصرية باعتبارها أحد أهم روافد الهوية الوطنية، وركيزة أساسية من ركائز القوة الناعمة لمصر.

جاء اختيار يوم 15 سبتمبر، بناءً على مقترح تقدّم به المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، ليواكب ذكرى رحيل فنان الشعب ومجدد الموسيقى المصرية الموسيقار الكبير سيد درويش، لتتحول المناسبة من مجرد ذكرى رحيل إلى احتفال وطنى سنوى يكرّس مكانة الموسيقى المصرية فى الوجدان، ويبرز دورها العابر للأجيال فى صياغة وعى المصريين وتعبيرها الصادق عن مشاعرهم وطموحاتهم.

ومن سيد درويش إلى بليغ حمدى الذى وصفه النقاد بـ “بيتهوفن المصري”، و”بلبل الألحان” و”ملك الموسيقى”. وضع “حمدي” نحوا من 250 لحنًا خلال مشواره لأغلب نجوم الغناء، ورحل فى الثانى عشر من سبتمبر بعد مسيرة فنية إعجازية.

بدأ بليغ حمدى مشوار التلحين مع أغلب نجوم الطرب والغناء على رأسهم سيدة الغناء العربي: أم كلثوم التى وصفته بالمجنون العبقرى، اكتشفت موهبة بليغ حمدى حين أدركت أنها لابد لها أن تجدد من نفسها فوافقت على إدخال آلة الجيتار فى فرقتها الموسيقية، ورحبت أيضًا بالخروج من قالب السنباطى والتجديد بفكر الشباب عندما تعاونت مع بليغ حمدى وقدمت أروع أغنياتها، ويكفى أنه كسر الاحتكار فى التلحين لأم كلثوم الذى كان قاصرًا على الثلاثى السنباطى والقصبجى وزكريا أحمد. لحن لها 11 من أجمل أغانيها، منها: “حب إيه، حكم علينا الهوى، ألف ليلة وليلة، الحب كله، إنا فدائيون، فات الميعاد، بعيد عنك حياتى عذاب، ظلمنا الحب، كل ليلة وكل يوم، سيرة الحب” التى أدخل فيها عزف الأوكورديون لأول مرة، “أنساك يا سلام”. وكان آخر أغانيها “حكم علينا الهوى” ليفتح لها الباب فى الغناء من ألحان عبد الوهاب والموجى والطويل.

كما قدم بليغ حمدى للعندليب عبد الحليم حافظ أول ألحانه: “ تخونوه “ ثم أغنية “خايف مرة أحب” وتوطدت العلاقة بينهما إلى حد الصداقة، وكونا ثنائيا فنيا استمتع الجمهور بأغانيهما التى وصلت إلى ثلاثين أغنية.

قال الدكتور أشرف عبدالرحمن أستاذ النقد الموسيقى بأكاديمية الفنون، إن بليغ حمدى ينتمى لموسيقى الجيل الثالث الذى ظهر فى القرن العشرين، موضحا أن هناك 3 أجيال ساهموا فى تطوير وتغيير الموسيقى العربية، ومن بينهم بليغ، معلقا: الجيل الأول كان يضم سيد درويش وعبدالوهاب والسنباطى والشيخ زكريا أحمد والقصبجي، والجيل الثانى ظهر أواخر الثلاثينات مثل محمد فوزى وعبدالعزيز محمود وفريد الأطرش، والثالث ظهر بعد ثورة 1952 ومنهم كمال الطويل والموجى وغيرهما.

اتفق بليغ حمدى مع سيد درويش فى تقديمه للمسرح الغنائى فقدم عدة مسرحيات غنائية وأوبريتات استعراضية أهمها: مهر العروسة، تمر حنة، ياسين ولدي،  كما وضع الموسيقى التصويرية لكثير من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية وصفه عبد الحليم حافظ بأمل مصر فى الموسيقى، كما قال عنه محمد عبد الوهاب: “ربنا بيدى الواحد مننا نغمة جديدة بسيطة الناس تغنيها كل كام سنة، لكن بيديها لبليغ كل يوم”، وقال عنه النقاد أيضا: “بليغ هو بيتهوفن المصري” وذلك بعد عرض فيلم ”شيء من الخوف” الذى عرض فى ألمانيا وتصفيق الحضور لموسيقاه التصويرية التى وضعها بليغ حمدى للفيلم، هانى مهنا عن الموسيقار الراحل بليغ حمدى قائلا: الإلهام كان ساكن فى بيت بليغ حمدي، وكان ممكن يعمل 10 ألحان فى يوم واحد وكلها تظهر بشكل لا يوصف من شدة جمالها،  بليغ حمدى كان بياخد من الشعب ويلحن وهذا سر تميزه، وبليغ حافظ على الأصالة والتجديد كان عنوانه. لبليغ حمدى تجربة مع الأوبريت تماما كما فعل سيد درويش، لحن بليغ أوبريت مهر العروسة الذى عكس مدى اهتمامه بالفولكلور الذى يعتبره الطريق الصحيح للخروج بالأغنية المصرية والعربية من السكك والدروب التى وصلت إليها.