فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

الإخوان في ألمانيا.. معادلة متناقضة

ثمة حيرة تنتاب من يطلع على تقارير الاستخبارات الألمانية وينتهى إلى أنه على الورق، تُحذّر برلين من خطورة فكر جماعة الإخوان المسلمين وتصفها بـ"الإسلاموية القانونية"، وفي الواقع، تترك لها مساحات قانونية واسعة لبناء شبكة مؤسسات ومراكز وجمعيات تعمل في العلن. 

إنها المفارقة الصارخة التي تجعل ألمانيا تبدو وكأنها تحتضن خصمًا سياسيا لدول عربية كثيرة، ثم تعود لتضع تنظيم الإخوان تحت المراقبة الأمنية الدقيقة!


القصة بدأت منذ ستينيات القرن الماضي، حين أسس سعيد رمضان المركز الإسلامي في ميونخ، ليصبح قاعدة انطلاق للتنظيم الدولي في أوروبا، وهو التنظيم الذى خرج من رحمه الجماعة الإسلامية في ألمانيا التي غيّرت اسمها عام 2018 إلى الجماعة المسلمة الألمانية، لكنها لم تغيّر صورتها في أعين الأجهزة الأمنية.


ولم يقتصر النفوذ الإخواني على جمعية واحدة، بل تمدد في هيئة شبكة عنكبوتية متشعبة. فالمجلس الإسلامي في ألمانيا، الذي يُفترض أن يمثل المسلمين، وجد نفسه مضطرًا لاستبعاد الجماعة من عضويته عام 2022 تحت ضغط الرأي العام. 

 

المركز الإسلامي في ميونخ بقي رمزًا تاريخيًا للرصد الأمني. أما مؤسسة "يوروب ترست" الوقفية المسجلة في بريطانيا، فهي الخزان المالي الذي يمد الجمعيات بقدرة على البقاء والتمدد. على الورق تبدو جمعيات خيرية وتعليمية، وفي الواقع يصفها خبراء الأمن بأنها حاضنات نفوذ سياسي بغطاء اجتماعي.


وراء هذه المؤسسات تقف وجوه مصرية بارزة لا تخطئها العين. إبراهيم الزيات، الذي تصفه الصحافة الألمانية بـ رجل الظل المالي، يجيد لعبة الأوقاف والعقار ويمسك بخيوط التمويل من برلين إلى لندن. وهو من مواليد ألمانيا لأب مصري، ما أتاح له أن يجمع بين الهوية العربية والخبرة الأوروبية.. 

وقد استفاد من زواجه من صبيحة أربكان إبنة رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان ليبني شبكة ممتدة من العلاقات عبر برلين وأنقرة. بالنسبة للأجهزة الأمنية، يمثل الزيات الخيط الأكثر حساسية في معادلة التمويل، لأنه يعرف كيف يعمل القانون الألماني ويستثمره بمهارة واضحة لصالح التنظيم.


أما سمير فلاح، الرئيس السابق للجماعة المسلمة الألمانية والحالي لمجلس المسلمين في أوروبا، فهو الوجه المبتسم أمام الكاميرات الذي يتحدث عن الاندماج وحقوق المسلمين. وهو مهندس من أصل مصري استقر في ألمانيا منذ التسعينيات، أتقن الألمانية سريعًا، وأصبح الصوت الرسمي الذي يقدّم الجماعة كجزء من النسيج الديمقراطي. 

 

تقارير الاستخبارات تعتبره واجهة معتدلة، لكنها تشير إلى أنه يظل مرتبطًا بالتنظيم الدولي للإخوان عبر موقعه الحالي في مجلس المسلمين في أوروبا. وجوده في الصف الأمامي يجعل منه المتحدث الذي يُجمّل الصورة أمام الرأي العام، بينما تبقى الحسابات الحقيقية في الكواليس.
 

أما التمويل، فهو مربط الفرس. شراء مبانٍ وتحويلها إلى مراكز إسلامية، استثمارات وقفية، تبرعات تُجمع من المساجد، كلها موارد تُدار وفق القانون الألماني، لكنها في نظر الأجهزة الأمنية شريان حياة لشبكة أوسع من مجرد جمعية خيرية. وما يقدم من مساعدات للجالية -من دروس لغة ودعم للأسر وأنشطة شبابية- لا يُقرأ فقط كعمل خيري، بل كاستثمار طويل الأمد في بناء قاعدة اجتماعية تدين بالولاء لخطاب الإخوان.


وبرلين هنا تبدو وكأنها تلعب بالنار. فهي تقول لمواطنيها: نحن نراقب، لكنها تمنح في الوقت نفسه الجماعة غطاء قانونيًا للبقاء. 


هكذا تتجلى المعادلة المتناقضة: ألمانيا تحذّر من خطر الجماعة لكنها تمنحها شرعية البقاء، والإخوان يسوقون أنفسهم كجزء من النسيج الديمقراطي بينما يواصلون بناء نفوذ موازٍ، ومصر تراقب المشهد بقلق مشروع. على الورق، هناك مراقبة أمنية، وفي الواقع، هناك شبكة متنامية. إنها معادلة لا ترضي أحدًا، وقد تتحول مع مرور الوقت إلى ورقة ضغط مشتعلة بين القاهرة وبرلين.


في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع ألمانيا أن توازن بين شعارات الحرية ومقتضيات الأمن، أم أنها تمنح خصمًا لدودًا لدول عربية كبرى شرعية غير مبررة؟ القاهرة حسمت معركتها مع الإخوان، لكن برلين ما زالت عالقة في لعبة مزدوجة قد تكلّفها الكثير سياسيًا وأمنيًا.