ولد الهدى (الحلقة الثانية عشرة)، كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس
في شهر ربيع الأول، أشرقت الدنيا بنور النبوة، ووُلد خير من وطئ الثرى، سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
ذلك الميلاد الذي لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان بداية لفجر جديد أضاء ظلمات الجاهلية، وأعاد للإنسانية رشدها، وأرشدها إلى صراط الله المستقيم.
في هذه السلسلة المباركة، نتفيأ ظلال السيرة العطرة، ونستعرض بعضًا من مناقب الحبيب المصطفى، وصفاته الخُلُقية والخَلقية، وشمائله التي مدحها رب العالمين، وأثنى عليها السابقون واللاحقون من أهل الإيمان.
زهد سيدنا رسول الله
عرض الله سبحانه، عليه أن يعطيه مل الأرض ذهبا، وأن يحيل الجبال له الي ذهب وفضة، وآتاه اللهُ مفاتيحَ خِزائِنِ الأرضِ، فأبى أن يقبَلَها، واختار الآخِرةَ عليها؛ لأنه، صلى الله عليه وآله وسلم، كان أزهَدَ النَّاسِ فيما عندَ النَّاسِ.
وفي دعائه، كان صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: "اللَّهمَّ ارزُقْ آلَ مُحمَّدٍ قُوتًا".
في تفسير الإمام ابن كثير عن خيثمة أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيًا قبلك، ولا نعطي أحدًا من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عز وجل في ذلك: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا" (الفرقان: 10)، وخُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملِكًا نبيًا أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا.
ورُوِي عن عُمرُ: "رفعْتُ بَصري في بَيتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فواللهِ ما رأَيتُ فيه شيئًا يرُدُّ البَصرَ غَيرَ أَهَبَةٍ ثلاثةٍ، فقلْتُ: ادعُ اللهَ فليُوسِّعْ على أمَّتِك؛ فإنَّ فارِسَ والرُّومَ وُسِّع عليهم، وأُعطوا الدُّنيا وهُم لا يعبُدونَ اللهَ، وكان مُتَّكِئًا فقال: أوفي شكٍّ أنت يا بنَ الخطَّابِ؟! أولئك قومٌ عُجِّلَت لهم طيِّباتُهم في الحياةِ الدُّنيا".
إنَّ الأكثَرينَ هم الأقَلُّونَ يومَ القِيامةِ
وفي الحديث الشريف، أن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: "ما يسُرُّني أنَّ عندي مِثلَ أُحُدٍ هذا ذَهبًا تمضي عليَّ ثالثةٌ وعندي منه دينارٌ إلَّا شيئًا أرصُدُه لدَينٍ، إلَّا أن أقولَ به في عِبادِ اللهِ هكذا وهكذا وهكذا، عن يَمينِه، وعن شِمالِه، ومِن خَلفِه، ثُمَّ مشى، فقال: إنَّ الأكثَرينَ هم الأقَلُّونَ يومَ القِيامةِ، إلَّا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا -عن يَمينِه، وعن شِمالِه، ومِن خَلفِه - وقليلٌ ما هُم!".
ورُوِيَ عن السيدة عائِشةُ رضِي اللهُ عنها، أنها قالت: "تُوفِّيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما في بيتي مِن شيءٍ يأكُلُه ذو كَبِدٍ إلَّا شَطرُ شعيرٍ في رَفٍّ لي! فأكلْتُ منه حتَّى طال عليَّ، فكِلْتُه ففَنِيَ".
كما قالت عائِشةُ رضِي اللهُ عنها: "كان فِراشُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أَدَمٍ ، وحَشوُه مِن ليفٍ".
وقال أنسٍ رضِي اللهُ عنه: "لم يأكُلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على خِوانٍ حتَّى مات، وما أكل خُبزًا مُرقَّقًا حتَّى مات".
التمر والماء.. طعام آل محمد
وروت عائِشةَ قالت: "إنْ كنَّا - آلَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لنمكُثُ شَهرًا ما نستوقِدُ بنارٍ، إن هو إلَّا التَّمرُ والماءُ".
وفيما روي عن أنسٍ رضِي اللهُ عنه، قال: "جئْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فوجَدْتُه جالِسًا معَ أصحابِه يُحدِّثُهم، وقد عصَب بَطنَه بعِصابةٍ ، فقلْتُ لبعضِ أصحابِه: لمَ عصَب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَطنَه؟ فقالوا: مِن الجوعِ!".
وقالت عائِشةَ أمِّ المُؤمِنينَ رضِي اللهُ عنها: "قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ: يا عائِشةُ، هل عندَكم شيءٌ؟ قالت: فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ما عندَنا شيءٌ، قال: فإنِّي صائِم".