ما هذا التناقض؟!
كنت أرجو أن تحذو وزارة التنمية المحلية حذو نائب رئيس الوزراء وزير النقل والصناعة الفريق كامل الوزير، الذي تنازل عن البلاغ المقدم ضد موقع وجريدة فيتو وكذلك قيامه بسحب الشكوى المقدمة للمجلس الأعلى للإعلام، وهي بادرة طيبة تفسح المجال لحرية الرأي والتعبير وتدعم الإعلام والصحافة، اللذين يطالب الرئيس السيسي بضرورة وضع خارطة طريق للنهوض بهما وتطوير أدائهما ورسالتهما المهمة في التنوير وبناء الوعي الحقيقي في مواجهة الوعي الزائف.
وحسنًا فعلت الهيئة الوطنية للصحافة بقيادة المهندس الواعي عبدالصادق الشوربجي، إذ أعلنت انتهاء أزمة الزميل إسلام الراجحي الصحفي بمؤسسة أخبار اليوم، بعد تواصل واتصالات مكثفة بين الهيئة وجميع الجهات المعنية، تم إنهاء إجراءات إخلاء الراجحي..
ولا تتوقف الهيئة الوطنية للصحافة عن متابعة تفاصيل تلك القضية لبحث إنهائها بالكامل مع أطرافها والتوصل إلى تسويتها بما يتفق وصحيح القانون، ويكفل حق الزميل وحقوق جموع الصحفيين في أداء رسالتهم الصحفية الشريفة بحرية مسئولة.. وهذا جهد مشكور للهيئة الوطنية ورئيسها الذي لا يتوانى عن دعم الصحافة والصحفيين.
تعيدنا البادرة الطيبة للوزير كامل الوزير لزمن القامات الصحفية والسياسية، التي أذكر أن وزراء عظامًا أمثال المهندس سليمان متولى وزير النقل الأسبق الذي كنت أنتقده دون أن يغضب، بل بالعكس كان ينادينا كصحفيين ويتجاذب معنا أطراف الحديث حول قضايا الوزارة والمهنة بحس إنساني وسياسي رفيع..
وهو ما ينبغي أن نتعلم منه، صحفيين ومسئولين، حتى نحافظ على ذلك الإرث العظيم من احترام الصحافة وحرية الرأي، وليس كما فعل البيان الصادر عن وزارة التنمية المحلية بشأن الزميل الصحفي إسلام الراجحي والذي أثار حالة من الجدل، ليس فقط بسبب ما حمله من معلومات، بل لما تضمنه من تناقضات واضحة وتبريرات غير مقنعة تسعى إلى التنصل من حقيقة واضحة: أن الصحفي يُلاحق قضائيًا بسبب انتقاد أداء مسئول محلي.
فبينما يبدأ البيان بنفي صلة قرار الضبط والإحضار بما نشره الصحفي من انتقادات تتعلق بمستوى الخدمات العامة، ثم يمضي ليؤكد أن الإحالة إلى الجنايات جاءت بسبب ما وُصف بأنه "سب وقذف وانتهاك للحرية الشخصية" لإحدى المسئولات، على خلفية منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذا وحده كافٍ لتقويض مجمل ما جاء في البيان، إذ إن الإشارة إلى منشور ينتقد أداء مسئولة تنفيذية لا يمكن عزله عن سياق حرية التعبير، ولا يمكن اعتباره فعلًا جنائيًا إلا إذا كانت معايير النقد قد أُفرغت تمامًا من مضمونها ووقع الزميل دون أن يدري في دائرة السب والقذف والتطاول!
البيان حاول تغليف الواقعة بغلاف قانوني، فأشار إلى وجود حكم سابق على خلفية خلافات عائلية، يبدو للوهلة الأولى أنها السبب الحقيقي في جرجرة إسلام للمحاكمة، رغم أن إثارة تلك المسألة كفيلة وحدها بإضعاف الموقف الأخلاقي للصحفي أمام الرأي العام، فكيف نقرأ مثل هذا السياق، خاصة أن توقيت تنفيذ هذه الأحكام جاء متزامنًا بشكل مريب مع تصاعد حدة انتقاداته لتلك الموظفة.
إن إحياء ملف قضائي قديم بهذا الشكل، وربطه بقضية أخرى ذات صلة مباشرة بالعمل الصحفي، يعطي الانطباع بأن هناك محاولة للانتقام المقنع تحت مظلة القانون، وهو ما يشكك في دوافع التقاضي.
كما أن الإشارة إلى السب والقذف في حد ذاتها تستدعي التوقف، لأن الوزارة لم تنشر نص المنشور محل الاتهام، ولا أوضحت كيف تحول النقد إلى سب، أو بأي معيار اعتُبرت ممارسة الصحافة انتهاكًا للحرية الشخصية.
الأخطر من كل ذلك هو تلك الازدواجية الواضحة في الخطاب؛ فبينما يُنهي البيان سطوره بتأكيد احترام الوزارة لحرية الرأي والنقد البناء، فإنها تُقر في الوقت نفسه بملاحقة صحفي جنائيًا لأنه انتقد أداء موظفة عمومية.
هذه الازدواجية لم تعد تخفي على أحد، وهي تمثل إهانة مباشرة للعقل العام، لأن حرية الرأي لا تُحمى بتصريحات علاقات عامة، بل بممارسات واقعية تحصّن هذا الحق من العبث والتأويل.
والمؤسف أن محاولة الوزارة الفصل بين ما هو نقد بناء وما هو مسٌّ بالحرية الشخصية جاءت دون تعريف واضح أو معيار مهني موضوعي، وكأن الأمر خاضع لتقديرات فردية متقلبة. وهنا مكمن الخطر الحقيقي: أن يتحول القانون إلى أداة لتقييد النقد البناء المطلوب، وتُصبح الحرية الشخصية ذريعة لاحتكار الصواب وتحصين المسؤول من المحاسبة.
فماذا يفعل الصحفيون وهم في مرمى التقاضي من جانب موظفين في الحكومة؟! وفي ختام البيان، تطلب الوزارة من وسائل الإعلام تحري الدقة والرجوع للمصادر الرسمية قبل النشر، وهي دعوة تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها تفقد قيمتها حين تكون الجهات الرسمية نفسها هي الطرف الغامض، الذي لا يوضح، ولا يشف، ولا يضع الرأي العام في صورة متكاملة. فكيف يُطلب من الإعلام تحرّي الدقة، والمعلومة محجوبة، والتصريحات انتقائية، والمساءلة معدومة؟
إن ما كان يُنتظر من الوزارة هو موقف أكثر اتساقًا مع ما تدّعيه من احترام لحرية الرأي، لا أن تصدر بيانًا يُدين صاحبه دون محاكمة، ويُلوّح بأحكام وملاحقات لا تخدم حرية الرأي والصحافة، بيانا يدّعي الحياد في الوقت الذي يُوظف فيه الخطاب الرسمي للنَّيل من صاحب رأي.
فالإعلام الحر لا يُكمم بمنشور ولا يُحاكم بتقارير، واحترام النقد لا يكون بمدح عمومي وتضييق فعلي، بل بإرادة سياسية حقيقية تعي أن الكلمة الحرة ليست خصمًا، بل ضمانة لأي إصلاح يُرجى له البقاء.. وأن قوة الصحافة من قوة المجتمع الذي تدافع عن مصالحه، فالمسئول اليوم خصم للصحافة وغدا سيحتاج إليها حين يصبح بلا سلطة ولا نفوذ! إننا نثق في قضائنا العادل.. فلا يصح إلا الصحيح.