فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

إعلامنا بين بطالة خريجيه والتوسع في الكليات والأقسام! (2)

كلما تأملت واقع إعلامنا وصحافتنا وما أصابهما من وهن وتراجع في المكانة والتأثير لكثرة الخريجين وقلة فرص العمل، وتصدر غير المتخصصين وغير المؤهلين لصدارة المشهد الإعلامي، عادت بي الذاكرة لأيام الأمجاد في بلاط صاحبة الجلالة، التي أفنيت فيها ما يقرب من نصف قرن في خدمتها؛ ذلك أني التحقت بالعمل محررًا في جريدة الجمهورية التي كان يرأس تحريرها آنذاك الصحفي الكبير محسن محمد بقرار من الرئيس السادات عام 1975.
 

والحق أني عرفت كاتبنا الكبير قبلها منذ كان مديرًا لتحرير الأخبار، حيث كنت أقضي وقتها فترة تدريبي وقد طلب مني الانتقال معه للجمهورية بعد أن جرى تكليفه برئاسة تحريرها.. تعلمت على يديه الكثير فقد كان قارئًا جيدًا وصحفيًا من طراز فريد، يعرف كيف يجذب القراء، وقد ارتفع بتوزيع الجمهورية من 38 ألف نسخة إلى 800 ألف، وهو رقم غير مسبوق ليس في الجمهورية وحدها بل في كل الصحف المصرية والعربية آنذاك.


و كانت جريدة الجمهورية أجمل محطات حياتي، حيث صدر قرار تعييني فيها دون واسطة ولا محسوبية؛ فلم أكن أعرف وأنا القادم من الريف وقتها مسئولًا كبير ولا حتى صغيرًا ليتوسط لي عند محسن محمد، الذي كان يرفض المجاملة والوساطة في العمل، ولا يرضى بغير الكفاءة والمهنية معيارًا ومسوغًا للتعيين..

 

وقد نجح بفضل هذه الصفات في تجديد شباب الجريدة، وإرتياد آفاق غير مسبوقة في دنيا الصحافة، حتى أنه في رأيي وبلا مبالغة واحد من صناع صحافة القاريء في عالمنا حتى هذه اللحظة. 
 

هذه كانت بيئة العمل في الصحافة في زمنها الجميل فلم يدخلها إلا من يملك مقومات الجدارة والاستحقاق والمهارات الحقيقية لمهنة القلم، وإدراكا لقدر الرسالة ومقامها الرفيع الذي تهاوي للأسف تحت أقدام المحسوبية والابتزاز والانفلات، الذي ضرب كل شيء في بلدنا بعد أحداث يناير.. 

 

ودخل المهنة من لا يملك أدنى متطلباتها علمًا وخلقًا وفهمًا.. حتى صارت مهنة من لا مهنة له.. وبنظرة فاحصة لأعداد المقبولين بجداول نقابة الصحفيين في السنوات العشر الأخيرة ندرك كم جنينا على الصحافة وعلى مستقبلها.. وأي مصير أوردناها!


الغريب أن معهد الإعلام الذي التحقت به قبل أربعة عقود تحول إلى كلية تخضع لمكتب التنسيق، وإنتهى عهد الاختبارات التحريرية والمقابلات الشخصية التي كان لابد من اجتيازها كشرط لقبول المتقدمين إليه.
 

وبعد رحلة كفاح في صاحبة الجلالة ترقيت في عملي من محرر لرئيس قسم ثم نائبًا لرئيس التحرير ثم نائبًا أول، فرئيسًا لتحرير كتاب الجمهورية ثم رئيسًا لمجلس إدارة دار التحرير (الجمهورية للصحافة).. 

والحمد لله أني مع كل صعود في عملي لم أكن أطلب ترقية ولا منصبًا من أحد، بل كان توفيق الله وإيماني أولًا بأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا، هما سندي ودافعي للاجتهاد ثم حبي للمهنة هي أهم مؤهلاتي للنجاح فيها، وقبل هذا وذاك من بيديه أمر الاختيار. كان يختار طبقا للكفاءة والخبرة وليس لأي شيء آخر.

 

وثمة محطة أراها مهمة في مشواري الصحفي وهي تكليفي من الكاتب الصحفي الكبير سمير رجب رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار التحرير بتأسيس والإشراف على قسم 139 جمهورية هكذا سماه، وهو أيضًا الخط الساخن، بالإضافة إلى عملي كنائب أول لرئيس التحرير ومسئول عن ملف النقل والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.


ولعلني لا أبالغ إذا قلت إن 139 جمهورية، خدمة صحفية انفردت بها الجريدة، وامتازت على سائر الصحف وقتها ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله؛ وكان مندوبوه الذين شاركت في اختيارهم كشرط لقبول الإشراف على القسم، فضلًا على التواصل المباشر مع "الديسك".. 

هؤلاء المندوبون لا يكلون ولا يملون العمل ليل نهار، منهم من يتلقى شكاوي الناس واستغاثاتهم واتصالاتهم، مصغيًا لمتاعبهم وأوجاعهم،، ومنهم من كان يطوف بها على المصالح والأجهزة الحكومية المختلفة ويطرق أبواب المسئولين بحثًا عن حق تأخر عن صاحبه، أو دفعًا لمشقة قد لا يطيقها ذوو الحاجة والأعذار..
ومنهم من يقوم على صياغتها وإعدادها للنشر ويحيل تلك الشكاوي والاستغاثات إلى تحقيقات وحملات صحفية عاجلة حققت نجاحات باهرة، وشكلت قناة تواصل سريعة بين المسئول والمواطن، وهي شكاوي يومية كانت تنهمر لدرجة أنها يمكن أن تملأ 5 جرائد كاملة.


139 جمهورية، كانت يخاطب جميع فئات المجتمع، لكن البسطاء والفقراء كانوا انحيازه الأول حتى أن الفكرة تطورت لتخصص بابًا لأعمال الخير ومساعدة المحتاجين، وتقديم العلاج المجاني لمن لا يقدر على شرائه بعد التأكد من حالة طالبي الخدمة بطرق موضوعية.


امتاز خط الجمهورية الساخن بديناميكة اكتسبت فعاليتها من الإسم والرقم المختصر الذي كان أيقونة صحفية فريدة، أسهمت في سرعة الاستجابة لمشكلات الناس وقدمت لهم ما ينفعهم، وعمقت الدور المجتمعي للجريدة، وهو ما زادها انتشارًا وتوزيعًا بالضرورة؛ فكانت الفائدة مزدوجة؛ ربح منه الجميع، المواطن والحكومة والمهنة..

 

ولست أدري لماذا إنطفأ هذا التوهج.. وتراجع هذا الدور بعد استقالتي من منصبي كرئيس لمجلس إدارة الجمهورية في 2011؛ فلم يهتم من خلفني في إدارة المؤسسة بهذا القسم المهم وإسهاماته الحيوية في خدمة الناس وتنشيط الجريدة.


ولم يكن 139 جمهورية وحده من تأثر سلبًا بأحداث يناير 2011؛ ذلك أن الانفلات والتراجع والانقسام كان سمة كل شيء في هذا البلد وقتها، ومن ثم فقد بادرت بتقديم استقالتي من رئاسة دار التحرير دون تردد، في اجتماع دُعيت إليه ضمن قادة الإعلام القومي والخاص مع رئيس الوزراء آنذاك الفريق أحمد شفيق ومن قبله في اجتماع المجلس العسكري.. 

كما طلبت من جميع الزملاء ومعظمهم حي يرزق أطال الله في أعمارهم أن يتنحوا عن مواقعهم لإفساح الطريق لجيل جديد يتماشى مع المرحلة الجديدة، ويعبر عنها بصدق وواقعية، ويستجيب للمطلب الأول للمتظاهرين بإبعاد كل من له صلة بالنظام السابق.


بالفعل تقدمت باستقالتي 3مرات ومعي الزميل عبدالقادر شهيب رئيس دار الهلال وقتها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفي النهاية تم قبولها، بعد أن رفض بقية الزملاء ترك مواقعهم طواعية ومواءمة لظروف كانت تحتم الاستقالة التي كانت ستجيء عاجلًا أم آجلًا.. وربما كان قبولها سببًا عجل بإجراء تغييرات صحفية جديدة لقيادات الصحف.. 

ويومها أدركت أن الإعلام القومي صمام أمان هذا البلد، وإصلاحه أولوية ينبغي لها أن تتقدم ما سواها في الأهمية إذا أردنا شعبًا واعيًا وحيوية مجتمعية وروحًا معنوية عالية ورأيًا عامًا داعمًا للدولة.


إصلاح الإعلام وتنميته وإعادة الاستثمار فيه وضخ دماء جديدة في شرايينه يصب في الصالح العام، ويشكل حائط صد ضد رياح الفتن والتشويه وتزييف الوعي، وهو ما أدركته الدولة بعد 30 يونيو وسعت لإصلاحه وترتيب أوضاعه.. وهو ملف يحتاج للمزيد والمزيد من التطوير والعلاج حتي يواكب المستجدات ويؤتي أكله.

 
الإعلام رسالة تنوير وإفصاح ووسيلة ديمقراطية يراقب بها الشعب حكومته وممثليه في البرلمان، ونافذة تثقيف للعقل وتحريره من أوهام الجهل والتعتيم.. والأهم أنه حائط صد ضد محاولات استهداف العقل وأركان الدولة.


وليكن ما حدث بعد يناير حاضرًا في الأذهان لنتذكر كيف ضرب الانفلات كل شيء في مصر واهتزت بسببه منظومة القيم، وساعد الإعلام للأسف على تكريس العنف وضيق الصدور بحق الاختلاف، وها هي الدولة تسعى لإصلاح ما أفسده إعلام ما بعد يناير. 


لجريدة الجمهورية التي نحتفل بعيد تأسيسها ال72 في ديسمبر المقبل باع طويل في نشر الثقافة، فلم تقتصر منذ انطلاقها على مجال الصحافة من رأي وخبر وتحقيق وتقارير تتناول الشأن العام فحسب، بل جعلت توفير الخدمات الاجتماعية والثقافية هدفًا تسعى إليه، لتقديم زاد حقيقي في التثقيف السياسي والأدبي والعلمي والرياضي.. 

 

جريدة الجمهورية أرادتها ثورة يوليو لسانًا ينطق باسمها ويتبنى قرارها ومواقفها؛ لكنها أخلصت لقرائها وسايرت الأحداث الكبرى وناصرت قضايا وطنها وأمتها، وناضلت ضد الاستعمار ومدت يد العون لحركات التحرر في سائر قارات الدنيا، وقاومت الإمبريالية الظالمة..

وقد أريد للجريدة أن تكون صحيفة رأي لكنها سرعان ما تجاوبت مع متطلبات العصر، وتحولت كغيرها من بنات زمانها إلى صحافة الخبر الذي تربع وقتها على عرش الصحافة، وانفرد بها قبل بزوغ ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.


وهكذا انتقلت الجمهورية بقدرة مدهشة من جريدة للثورة إلى جريدة الشعب؛ تدافع عن حقوقه، وتتبنى قضاياه وتخاطب جمهورًا عريضًا متنوعًا يجد ضالته المنشودة على صفحاتها وأبوابها المختلفة؛ ومن ثم اكتسبت مكانتها ليس لكونها بنت الثورة بل بحسبانها صوت الشعب وساعده الأيمن في نيل حقوقه ودرء الظلم عنه.


وفي مسيرة جريدة الجمهورية تاريخ عريق ازدان بعمالقة الفكر والأدب؛ فعميد الأدب العربي طه حسين كان واحدًا من رؤساء تحريرها، وهو ما جعلها ديوانًا للأدب ونبراسًا للثقافة.. كما أسهم في تحريرها كبار الكتاب ليس في الأدب وحده بل في الفنون والقانون والتاريخ والدين والطب والعلم، ويضيق المقام عن ذكر هؤلاء القامات الأفذاذ.. وتبقى أن هذه الأيام تاريخ جدير بالدرس والفحص لمن أراد أن يعرف كيف كنا وكيف أصبحنا وما مستقبل صاحبة الجلالة!