الحاج محمد، رسالة خير تتوارثها الأجيال من قطع الغيار إلى كوب العرقسوس (فيديو)
في زحام الحياة وسط صخب المدينة، تقف قصة الحاج محمد كمنارة للعطاء الإنساني، رجل تحول من صاحب محل قطع غيار عادي إلى رمز للخير والكرم في حيه.
منذ 35 عامًا وهو يمارس مهنته، لكن ما يميزه ليس بيع قطع الغيار، بل كوب العرقسوس البارد الذي يوزعه مجانًا على المارة والعطشى، في مشهد يتكرر يوميًا كطقس مقدس لا يعرف الملل أو الكلل.
البداية من أرض الحرمين
تعود جذور هذه القصة الإنسانية إلى المملكة العربية السعودية، حيث كان الحاج محمد يعمل هناك. في تلك الأيام الحارة تحت شمس الصحراء، استشعر عطش الناس وحاجتهم الماسة للارتواء، فجاءته الفكرة البسيطة والعظيمة في آن واحد: لماذا لا يحضر العرقسوس ويوزعه على الناس مجانًا؟
من تلك اللحظة، وُلدت فكرة لم تفارقه حتى اليوم. عاد الحاج محمد إلى مصر حاملًا معه أكثر من مجرد ذكريات، حمل رسالة إنسانية قرر أن يجعلها جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية.
أمر إلهي لا يقبل التأجيل
عندما سُئل الحاج محمد عما إذا كان فكر يومًا في التوقف عن هذه العادة اليومية، كانت إجابته بمثابة درس في الإيمان والالتزام الديني.
يرى الحاج محمد عمله، ليس مجرد صدقة أو عمل خيري، بل رسالة يؤديها بكل تفانٍ وإخلاص.
زبائن الخير.. وجوه متجددة كل يوم
محل الحاج محمد لقطع الغيار تحول إلى محطة يومية لفئات مختلفة من الناس. السائقون والعمال والموظفون وأصحاب السيارات الذين يتوقفون للشرب، جميعهم أصبحوا جزءًا من هذا المشهد اليومي المتكرر. "فئات مختلفة وفي كل يوم وجوه جديدة، وده غير الزبائن الأصليين اللي اتعودنا عليهم كل يوم"، يشرح الحاج محمد وهو يصف تنوع الناس الذين يأتون إليه.
هذا التنوع في الزبائن يعكس البُعد الاجتماعي لما يفعله الحاج محمد، فهو لا يقدم مجرد مشروب بارد، بل يخلق مساحة للتواصل الإنساني والتكافل الاجتماعي في زمن قل فيه هذا النوع من التفاعل الإنساني المباشر.
أرقام تحكي قصة العطاء
وراء هذا العمل الخيري جهد يومي كبير وتكلفة مالية لا يستهان بها. يحضر الحاج محمد يوميًا من 10 إلى 15 برميلًا من العرقسوس، وفي أيام الحر الشديد يصل العدد إلى 20 برميلًا. كما يشتري 12 لوح ثلج يوميًا، وفي أيام الذروة يصل العدد إلى 15 لوحًا.
التضخم لم يرحم حتى هذا العمل الخيري، فبعد أن كان يشتري لوح الثلج بجنيه ونصف، أصبح سعره الآن 40 جنيهًا. ويستهلك شوال عرقسوس كل يومين أو ثلاثة أيام بحد أقصى. هذه الأرقام تعكس حجم التزامه وإصراره على الاستمرار رغم الظروف الاقتصادية الصعبة.
جودة بضمير.. وصنعة بأمانة
يحرص الحاج محمد على عدم إضافة ألوان صناعية، ويؤكد أنه يصنع العرقسوس "بضمير". مع سرعة الطلب، يلجأ إلى غلي الماء الساخن ووضعه على العرقسوس لتسريع عملية التحضير. ولا يعمل وحده، بل وظف شخصين آخرين لمساعدته في هذا العمل الخيري وصنع العرقسوس يوميًا.
هذا الحرص على الجودة والأمانة يعكس فهمًا عميقًا لمعنى المسؤولية تجاه الآخرين، فالحاج محمد لا يكتفي بتقديم المشروب مجانًا، بل يحرص على أن يكون بأفضل جودة ممكنة.
الوراثة الطيبة.. من الأب إلى الابن
لم تتوقف قصة الخير عند الحاج محمد، بل انتقلت إلى ابنه الكبير الذي يملك معرض قطع غيار في مصر الجديدة. الابن يتبع نفس خطوات والده، وأصبح العرقسوس طقسًا وعادة انتقلت من الأب إلى الأبناء. هذا التوارث للعمل الخيري يضمن استمرارية الرسالة ويؤكد أن القيم النبيلة قابلة للانتقال عبر الأجيال.
لا يتوقف عطاء الحاج محمد عند العرقسوس، فهو يوزع أيضًا وجبات من السمك يوميًا عدا يوم الجمعة. هذا الطقس اكتسبه من زوجته المتوفاة، وحرص على استمراره بعد وفاتها تكريمًا لذكراها.
يتراوح عدد الوجبات بين 250 إلى 300 وجبة يوميًا، رقم يعكس حجم التزامه الإنساني الهائل.
في نهاية الحديث مع الحاج محمد، تظهر الجانب الإنساني العميق في شخصيته. أمنيته الوحيدة بسيطة ومؤثرة: "أن يرحمه الله ويرحم زوجته ويرحم أولاده". لم يطلب شيئًا سوى الرحمة، وعيناه تفيضان بالدموع، في مشهد يلخص روح الرجل الذي قضى حياته في خدمة الآخرين دون انتظار مقابل.