رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد كامل يكتب: العيد القومي للمنوفية.. بين ملحمة دنشواي وتضحيات الأبطال

 العيد القومي للمنوفية
العيد القومي للمنوفية

كلنا يسعى ويحلم بأن يذكره التاريخ، لكن الأهم حالة الذكر.. بخير أم بشرّْ، بالشرف أم بالعار؟

ملحمة "دنشواي"، ليست إحدى ملاحم النضال الوطني بين المصريين وطغاة الاستعمار الإنجليزي لمصر فقط، لكنها عزيمة شعب أبيّ قاوم احتلاله بكل السبل، وبجميع الطوائف.



ودنشواي هي إحدى قرى مركز الشهداء التابع لمحافظة المنوفية، وكانت مسرحًا لأحداث حادثة دنشواي، التي استغلها مصطفى كامل لفضح مساوئ الاستعمار الإنجليزي لمصر.

أما الحادث نفسه.. فقد أُرسلت كتيبة إنجليزية من مائة وخمسين فرداً من القاهرة إلى الإسكندرية، وفي الطريق نزلوا للاستراحة، سأل خمسة ضباط عبد المجيد سلطان كبير مُلاك المنطقة عن مكانٍ لصيد الحمام، فدلهم على دنشواي المشهورة بكثرة حمامها.

ولما رآهم إمام مسجد القرية حسن محفوظ صاح بهم كيلا يحترق التبن في الأجران ويأخذوا حذرهم لوجود النساء والأولاد، لكنهم لم يفهموا ما يقول وأطلق أحد الضباط عياراً أخطأ هدفه وأصاب "أم صابر" زوجة مؤذن المسجد، فوقعت عن الجرن وماتت في الحال، واشتعلت النار في التبن.                                                                 





هجم الإمام على الضابط يجذب البندقية منه ويستغيث بأهل البلد صارخاً: "الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن".                                   

تجمهر الأهالي فيما هرع بقية الضباط لنجدة زميلهم، وعلم العمدة فأرسل في الحال شيخ الخفر وخفيرين لإنقاذ الضباط، وفي خضم الهلع من الطرفين توهم الضباط بأن الخفراء سيفتكون بهم فأطلقوا النار وقتلوا شيخ الخفر.

زاد غضب الأهالي وحملوا على ثلاثة ضباط بالطوب والعصي قبلما يخلصهم الخفراء، والآخران - الكابتن بول قائد الكتيبة وطبيبها - هربا عدْواً نحو ثمانية كيلومترات في الحر الشديد حتى وصلا قرية سرسنا، حيث وقع الكابتن طريح الأرض، ومالبث أن قضى نحبه من ضربة شمس بحسب تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي، وأما الطبيب فركض إلى المعسكر واستصرخ الجند فأسرعوا إلى الكابتن فوجدوه ميتاً وقد تجمع حوله بعض أهالي سرسنا الذين فروا لما رأوهم، فاقتفى الإنجليز أثرهم وقبضوا عليهم إلا واحداً هرب قبل أن يُشدّ وثاقه واختبأ في فجوة طاحونة تحت الأرض فلحقه الإنجليز وقتلوه شر قتلة.

في الثامن عشر من أبريل عام 1906 تم انعقاد أولى جلسات محكمة دنشواي، في سراي مديرية شبين الكوم، وقُدِّم 52 قرويًا للمحاكمة بجريمة القتل العمد، وتم إثبات التهمة على 32 منهم في 27 يونيو 1906 وتفاوتت الأحكام فيما بينهم وكانت معظم الأحكام بالجلد والبعض حكم عليه بالأشغال الشاقة وتم إعدام 4 منهم.

لم تكن دنشواي ملحمة عادية، وكما خلدت في التاريخ بالعزة والكرامة للمنوفية وأبنائها، وبالخزي والعار للاستعمار وأتباعه.

 تباينت أيضا الصفات التي لاحقت أطرافها بين الكرامة والعار، فإمام المسجد ومؤذنه وزوجته وشيخ الخفراء ذكرهم التاريخ وخلدهم في قائمة الشرف؛ وقاضيا المحاكمة ومحامي الاستعمار سيظل ذكرهم بالخزي والعار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 وتضم قائمة العار القاضيين؛ بطرس غالي رئيس المحكمة، وأحمد فتحي زغلول عضو المحكمة المصري، وإبراهيم الهلباوي شيخ المحامين وقتها، ودفاع الاحتلال ضد أبناء وطنه.

بطرس غالي
ترأس المحكمة التي أصدرت الأحكام الجائرة على فلاحي مذبحة دنشواي، كان وزيرًا لخارجية مصر في عهد المعتمد البريطاني لورد كرومر، ثم رئيسًا للوزراء، تم اغتياله جزاء لما ارتكبه في حق الوطن من خيانات وحماقات، وتعد دنشواي من أهم تلك الخيانات، وتعد حادثة اغتياله ثاني عملية اغتيال في تاريخ مصر الحديث بعد اغتيال كليبر.

أحمد فتحي زغلول
قاضٍ وكاتبٍ، وأحد رواد الترجمة في مصر، وشقيق الزعيم الوطني سعد زعلول، لم يعرف عنه التاريخ سوى موقف واحد، كان كفيلًا بتشويه 51 عامًا هي عمره كله، وهو دوره في ''حادث دنشواي 1906''، فالعار أن ''هيئة المحكمة'' كانت مصرية، وصدر الحكم من شقيق ''زعيم وطني، اتخذ طريقًا يدعو للاستفادة من الإنجليز على أرض مصر إن لم تستطع الحركات المقاومة إخراجهم.

في حفل ترقيته وكيلا لوزارة الحقانية الذي أقامه له زملاؤه وبعض شخصيات المجتمع بفندق ''شيبرد''، دُعي أمير الشعراء ''أحمد شوقي'' لإلقاء أبيات لتكريمه، فرفض المجيء وأرسل مظروفًا مغلقًا ليُقرأ على الجمع الحاضر، كتب فيه:

"خذوا حبال مشنوقٍ بغير جريرةٍ ...  وسروال مجلودٍ وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه ... من الشعر حكمٌ خطه بيمين
 ولا تقرأوه في ''شبرد'' بل اقرأوا ... على ملأٍ في دنشواي حزين".

إبراهيم الهلباوي

أما إبراهيم الهلباوي، فكان شيخ المحامين في ذلك الوقت، وأكثرهم شهرة، وعقب أحداث دنشواي وتقرير الإنجليز بأن تقوم محكمة مخصوصة بمحاكمة المتهمين، قام المستشار ميتشل سكرتير الداخلية الإنجليزي بسؤال الهلباوي عما إذا كان قد وُكل من قِبل أحد من المتهمين في دنشواى، فلما نفى ذلك أخبره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها في "إثبات" التهمة ضد المتهمين؛ ذلك لأن نظام المحكمة المخصوصة يقضى بأن يمثل الاتهام شيخ من شيوخ المحاماة.

وخلال المحكمة الهزلية، وقف الهلباوى يترافع عن الاحتلال ضد وطنه، وعن الصيادين ضد ضحاياهم، ولم يخطئ مرة واحدة فيلتمس العذر للبؤساء من أهل دنشواي فيما فعلوه، فالقضية كما صورها هي صراع بين ضباط إنجليز خيرين طيبين شجعان، وبين فريق من الهمج المتوحشين، ضباط ينتمون لجيش الاحتلال الإنجليزي الذي "حرر" المصري.. وبين هؤلاء السفلة من فلاحى دنشواى"، هكذا ترافع الهلباوي.

عمرٌ طويلٌ عاشه الهلباوي بعد الحادث، أكثر من ثلاثين عاما حاول فيها التكفير عما اقترفه، ذاق خلالها الذل والهوان من المصريين الذين قابلوه بالكراهية في كل مكان.

عاشت دنشواي حرة أبية، وعاش أهلها، وكل عام ومحافظة المنوفية وقياداتها وشعبها بكل خير وعزة وكرامة.

الجريدة الرسمية