رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

كيف تعاملت المؤسسات الدينية مع كورونا؟ المؤشر العالمي للفتوى يجيب

دار الإفتاء
دار الإفتاء
لا تزال جائحة كورونا تكشف، مع الأيام، التغيير الجذري الذي أصاب جميع أنماط الحياة بدءًا من المكافحة وانتهاءً بآليات التعايش والمواجهة مع هذا الوباء، وهذا التغير طال جميع التخصصات المختلفة ومنها مجال الفتوى، ولا شك أن مؤسسات الفتوى الرسمية في مصر والعالم العربي والإسلامي كانت – ولا تزال - لها دور كبير خلال الأزمة، وهو دورٌ استلزم تعاونًا كبيرًا وتنسيقًا مستمرًّا من أجل التوعية بمخاطر هذا الفيروس القاتل، ومواجهة الكثير من الأفعال والسلبيات التي صدرت من البعض نتيجة لفهم خاطئ للمفاهيم الدينية.

 
ولقد واكبت مؤسسات الفتوى الحدث بجاهزية كبيرة واستراتيجيات منضبطة؛ حيث واكبت كافة المستجدات الطارئة بفتاوى عصرية تعتمد آخر مستجدات علوم الطب والوباء، لتقدير حجم المسألة والوقوف على كافة أبعادها وآثارها من أجل الحكم عليها، وقامت بواجبها المنوط بها، فأصدرت العديد من الفتاوى والبيانات التي تنمُّ عن بُعد نظر وإدراك عميق لحجم المسئولية، فعالجت آثار الجائحة وأبصرت الناس بكيفية التعامل معها في إطار مقاصد الشريعة الغراء.

المؤسسات الدينية في مصر
كما لم تغفل تلك مؤسسات الفتوى الرسمية الآثار الاقتصادية الناجمة عن تعطيل مصالح الأفراد والشركات، فنادت بتوجيه الزكاة والصدقات للمصابين والمتضررين من الوباء، ونبهت كذلك إلى الآثار النفسية والضغوط العصيبة التي واجهها جنود الأطقم الطبية جرّاء المجهود المتواصل لإسعاف المصابين وعلاجهم، ومحاربة التنمر ضدهم؛ حتى أعادت- إلى حدٍّ كبير- التوازن إلى المجتمع مرة أخرى، بالإضافة إلى إعادة التوازن النفسي.

ولم تكن تلك الهيئات الدينية بمنأى عن استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة منذ بداية الأزمة؛ بهدف إيصال رسالتها والتواصل مع الجمهور، عبر عدد من الآليات والسبل؛ فقد ضاعفت من فترة البث المباشر، واستقبال الفتاوى عبر الخطوط الهاتفية بشكل يومي، كما لجأت إلى التحول الرقمي والتكنولوجي، وكان أبرز زيادة ساعات البث المباشر والتواصل عقد الفعاليات التي اعتمدت على ذلك مثل المؤتمرات والندوات الافتراضية، على سبيل المثال المؤتمر العالمي الافتراضي «فقه الطوارئ: معالم فقه ما بعد كورونا»، الذي عُقد بالشراكة بين رابطة العالم الإسلامي ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي عبر منصة زووم الإلكترونية، وغيرها من الفعاليات.

وفي هذا التقرير، يلقي المؤشر العالمي للفتوى، الضوء على تعامل المؤسسات الدينية مع جائحة كورونا، وأبرز المكاسب ونقاط التميز التي خرج بها الخطاب الإفتائي خلال الجائحة، وكذلك أهم نقاط الضعف التي واجهت الحقل الإفتائي خلال عام من ظهور الجائحة.

أولًا: 18% نسبة فتاوى كورونا خلال العام.. و63% منها خاص بالعبادات

كشف المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم في تقرير له قام على رصد عينة من فتاوى كورونا على مدار العام المنصرم، أن فتاوى كورونا المرتبطة بالمجالات الشرعية المختلفة (عبادات – معاملات مالية – مجتمع وأسرة – آداب وأخلاق - ...إلخ) جاءت بنسبة (18%) من بين كافة الفتاوى الرسمية الصادرة خلال العام، ولاحظ المؤشر هبوط أسهم فتاوى كورونا كلما مر الوقت؛ والدليل أن الربع الأول من العام 2020م شهد ذروة الفتاوى والوصول إلى أعلى معدلاتها نظرًا لظهور بداية الوباء ومتابعة مستجداته، ثم أخذ منحنى الفتاوى في الهبوط تدريجيًّا حتى نهاية العام.




كما أكد مؤشر الفتوى تصدر فتاوى (العبادات) بنسبة (63%) من إجمالي مجالات الفتوى حول الجائحة، ويرجع ذلك إلى كثرة التساؤل دائمًا على الفتاوى المتعلقة بالعبادات، فضلًا عن المواسم الدينية التي فرضت طرح الكثير من الأسئلة حول ذلك المجال، هذا بالإضافة إلى ما استلزمته الجائحة من دراسة القواعد الفقهية المعتبرة للخروج بأحكام شرعية جديدة حول العبادات الجماعية والطهارة والزكاة والصلاة وغيرها التي تستلزم رؤية فقهية جديدة تتعامل مع تداعيات الجائحة وطرق التعامل معها في المستقبل، وكان من أبرز فتاوى العبادات ما يلي:



 

ومن الناحية الشرعية؛ حلّل مؤشر الإفتاء فتاوى كورونا الصادرة من المؤسسات الرسمية والمراكز الإسلامية وخرج بما يلي:

- النظر في كل ما يطرأ من جديد على الوباء، مع الأخذ في الاعتبار تطبيق فقه المصالح واعتبار المآلات، وقصد تحقيق ما جاء الشرع بالحفاظ عليه من المقاصد والكليات. 

- تأصيل الفتاوى شرعًا؛ ليتبين الفرق بين فقه الاعتياد وفقه الضرورة في أزمنة الأوبئة وأوقات الآفات.

- تحويل الفتاوى من مجرد أحكام شرعية وتأصيلات فقهية إلى إجراءات إيجابية وثقافة مجتمعية ورعاية شخصية ووطنية.

- التطبيق العملي لتقديم "درء المفسدة المتعلقة بالجائحة على جلب المصلحة"، وترتيب الأولويات في حفظ الكليات، وتبيان الفرق بين فقه الأمة وفقه الأفراد، والعلاقة بين الحكم الثابت والفتوى المتغيرة.

- إحياء بعض اجتهادات الصحابة والسلف في الأزمات وأوقات التلف؛ كاجتهاد سيدنا عمر بن الخطاب في إعطاء الزكاة لأهل الكتاب المصابين بعدوى الأوبئة؛ لتعلُّق ذلك بسلامة الإنسان وأمن الأوطان، وأيضًا اجتهاد العلماء في الفتوى بأن الحج في أزمنة الوباء ليس فرضًا.

ثانيًا: كيفية تقديم المؤسسات الدينية المصلحةَ المجتمعيةَ في مواجهة الوباء

جائحة كورونا 
أكد مؤشر الفتوى أن جائحة كورونا أفسحت المجال أمام العلماء ومجالس الإفتاء المختلفة في توضيح الأحكام الشّرعية في المجالات الفقهية التي تأثرت بالجائحة، وعلى الرغم من أن معظم الفتاوى الخاصة بالجائحة كانت متشابهة ومكررة في أغلب الدول التي طالها الوباء، غير أن المشهد الإفتائي شهد تضاربًا في إجمالي فتاوى كورونا في العالم بنسبة (20%)، ولوحظ خروج فتاوى مضادة للفتاوى الصادرة عن المؤسسات الرسمية المختلفة على مستوى العالم؛ ما أدى بدوره إلى إثارة البلبلة والتشتيت الذهني بين جموع المسلمين.

وأوضح المؤشر أن مجال "العبادات" أيضًا تصدّر المجالات التي شهدت تضاربًا في فتاوى كورونا بنسبة 10%، فمع الزيادة المطّردة لعدد الإصابات والوفيات جراء الفيروس؛ اتجهت هيئات ودور الفتوى الرسمية في العالم، ومعهم الكثير من العلماء والدعاة غير الرسميين، بإصدار فتاوى إيقاف الجمع والجماعات وإغلاق المساجد حمايةً من انتشار الوباء؛ وهنا انقسمت الفتاوى حول ذلك، فأيّدها الغالبية وعارضها قليلون. 

وأورد المؤشر نموذجًا على ما سبق بفتوى الداعية الكويتي حاكم المطيري التي أفتى خلالها بأنّ "من يقول بجواز إغلاق المساجد خشية العدوى فقد حادّ الله ورسوله، وأثبت ما نفاه النبي ﷺ واتخذه ذريعة لمناقضة شرعه، وخالف النص والإجماع، وسنّ في الإسلام سنّة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، كما اتهم المطيري الدول الإسلامية كافة بالردة نظير تعليقهم لصلاة الجماعة أثناء الجائحة.
ورد المؤشر على ذلك بأنه كما أن للأحوال العادية أحكامها، فللنوازل أحكامها أيضًا، وأن فتوى المطيري لم تحتوِ على شيء من فقه الأولويات أو فقه النوازل، ولم تتضمن شيئًا من قضايا (الاستحسان والاستصحاب أو المصالح المرسلة أو ما عمّت به البلوى)، ولم تُفرّق كذلك بين الكليات والجزئيات، أو تُحسن ترتيب الكليات أو المقاصد الضرورية.

وبرهن المؤشر على ما سبق بأن "المطيري" قال بإجماع الفقهاء على أن حفظ الدين هو أولى الضروريات الخمس، ثم يأتي بعده حفظ النفس، في حين أن الفقهاء وعلماء الشريعة المعاصرين أكدوا أنه إذا كان الإنسان هو محل رعاية الشريعة التي أتت بكل تلك المقاصد؛ فإن أول شيء يجب الحفاظ عليه هو (النفس)، فإنه إذا ضاعت النفس ضاع معها الدين والعقل وكل شيء، ثم يأتي الحفاظ على العقل الذي هو مناط التكليف في المرتبة الثانية؛ فلا بُدّ أن تبدأ في المقاصد بالنفس ثم نحافظ على العقل القائم فيها ليكون ذلك العقل مناطًا للتكليف، ثم يأتي في المرتبة الثالثة الحفاظ على الدين.

وأفاد المؤشر بأن مجال "الشؤون والعادات" شهد أيضًا تضاربًا بنسبة (6%)، وكان من الطبيعي أن تبرز الفتاوى الطبية وكذلك فتاوى التعامل مع غير المسلمين في الغرب، والتي شهدت العديد من الأفكار المتطرفة والأفكار المنحرفة التي تبنّت منهجًا مغايرًا لسماحة الإسلام واعتداله.
 فمثلًا، أفاد المؤشر بأنه في الوقت الذي أصدرت فيه هيئة الفتوى ببريطانيا فتوى تُجيز الدعاء لغير المسلمين بالشفاء من الوباء، وتعميم مبدأ الإنسانية، أصدر السلفي خميس الماجري فتوى متطرفة تجيز الفرح والاستبشار بهلاك غير المسلمين لأنهم أعداء الإسلام الذين سخروا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك فإنّ "الفرح بهلاك الظلمة والكفار والشماتة بما يصيبهم من كوارث هو أمر محمود؛ كما أن ذلك الهلاك هو عقاب رباني لهم سيشغلهم بأنفسهم ويكفّ من شرهم أو يكون عبرة وذكرى لهم ولغيرهم".

 وخلص المؤشر في هذا الجانب إلى ضرورة ميلاد فقه إسلامي بروح عصرية، يُعلي من شأن الإنسانية والأخوة البشرية في إطار الشرع الحنيف؛ فقد مرت جنازة يهودي بالنبي  - صلى الله عليه وسلم -  فقام لها،  فقالوا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي فقال: "أليست نفسًا". 

ثالثًا: تفاعل الخطاب الإفتائي مع الجائحة  
ولفت مؤشر الفتوى إلى جزئية مهمة وهي مدى تفاعل الخطاب الإفتائي مع الوباء، مشيرًا إلى أن إيجابيات هذا التفاعل كان بنسبة (70%) وذلك بسبب يقظة الفتاوى الرسمية، ومواكبة الحدث باستمرار، واستحداث فضاءات تكنولوجية جديدة لملاحقة تساؤلات المستفتين.. الخ. في حين انحصرت السلبيات الخاصة بالحدث في نسبة (30%) بسبب بعض الفتاوى غير المنضبطة من جانب التنظيمات والجماعات المتشددة. 

1. الإيجابيات ونقاط التميز
وحلل المؤشر إيجابيات الخطاب الإفتائي الخاص بكورونا، مبينًا أن أهمها: 

- فكرة إحياء التراث الإفتائي والعودة إليه؛ فقد تم استدعاء الفتاوى القديمة التي تحض على التباعد الاجتماعي وغلق المساجد وتعليق الجمع والجماعات عند الحاجة؛ ما يؤكد على أهمية ذلك التراث في محاكاة ومجابهة الوباء المستجد، وبيان كيف واكبت آراء الفقهاء والعلماء تلك الأوبئة على مر العصور.

- توجيه المسلمين للجوء إلى الله تعالى والدعاء والأخذ بالأسباب، والتأكيد على اتباع الأساليب الصحية والاحتياطات الاحترازية والتباعد الاجتماعي، وحث المجتمع الإسلامي على الزكاة والصدقات لبيان مدى التكافل والتآزر والإيثار والتضامن المجتمعي.

- اللجوء للعلماء والأطباء والمحللين والمتخصصين عند نزول الجوائح، وتوافق المؤسسات الدينية مع العلم باتباع الإجراءات والسياسات الصحية اللازمة لمواجهة الوباء والمطالبة المستمرة من الجميع بالالتزام بها.

- ظهور بدائل جديدة خاصة بـ(الفتوى عن بُعد) بدلًا من الفتاوى الشفهية وحضور المستفتين للمؤسسات والهيئات الرسمية بأنفسهم.

- إطلاق المبادرات التي تحث الناس على التبرع للفقراء المتضررين من هذه الأزمة، كمبادرة دار الإفتاء المصرية: "كأني اعتمرت" و"الصدقة أولى"، والتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني الأخرى.

سلبيات الخطاب الإفتائي الخاص بكورونا
ورغم ما سبق إلا أن المؤشر رصد بعض السلبيات المستنبطة من خطاب كورونا الإفتائي، وأهمها:

- التفسير على أن كورونا "عقاب إلهي" موجه لبعض البلاد، كالصين ودول الغرب مثلًا، مثلما صوره خطاب الدواعش وغيرهم، في حين نادى هؤلاء بالأخذ بالإجراءات الاحترازية في أماكن تواجدهم بعد إصابة البعض منهم بالوباء، ومحاربة الفتاوى الرسمية الخاصة بتعليق الصلوات وغلق المساجد واعتبارها فتاوى مسيّسة هدفها الحرب على الدين.
- 25 % من المحتوى المنشور عبر منصات التواصل الاجتماعي حول وباء كورونا تضمّن خرافات وشائعات باسم الدين، وذلك بعد نشر مواقع التواصل الاجتماعي لمحتوى ديني يبث الهلع والرعب بين الناس، وعدم تخصيص مواقع الإفتاء الرسمية لقسم يُعنى بالاستشارات والفتاوى الطبية. 

- أدى عدم حضور المستفتين بأنفسهم للمؤسسات الإفتائية وإرسال الفتوى عبر وسائل التكنولوجيا المختلفة، لفقدان جزئية مهمة قد يخفيها السائل فتخرج أحكام غير مطابقة للمسألة أو الفتوى.   
 
- عجز التنظيمات الإرهابية عن الخروج بفتاوى تواكب الجائحة واستغلال الانشغال العالمي بمواجهتها للتحريض على تكثيف العمليات الإرهابية.

وقدم المركز مجموعة من التوصيات أبرزها: 

- مثّلت جائحة كورونا فرصة عظيمة للقضاء على العشوائية الإفتائية والخطابات الدينية غير المنضبطة.  

- ينبغي على الهيئات الدينية أن تقوم باستراتيجيات تكنولوجية دينية وعقد دورات دينية حول "إدارة أزمات الجوائح".  

- توحيد فتاوى المؤسسات والمراكز الإسلامية الدينية الرسمية الخاصة بالنوازل والجوائح، وتقديم رؤى دينية وفقهية عميقة في كل المجالات والمستويات.

- إطلاق برامج تدريب وتأهيل كوادر من الدعاة الرسميين للقيام بمهام مزدوجة لمواجهة مثل تلك الفواجع والأزمات، فضلا عن استشراف مسائلها وتقديم حلول غير تقليدية.

- ضرورة عقد "مؤتمر عالمي ديني" يهتم بما قدمته المؤسسات الدينية الرسمية خلال الجائحة، ورصد الإيجابيات والسلبيات والتحديات التي سعت للتغلب عليها. 

- تخصيص مواقع المؤسسات الإفتائية الرسمية لقسم خاص يُعنى بالفتاوى الطبية، ليسهل على المستفتي الحصول عليها بسهولة ويسر.
Advertisements
الجريدة الرسمية