رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

«جمرات الورد» قصة قصيرة لحسام أبو سعدة

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

الملائكة تنهمك في عملها بجد ونشاط. يصعدون إلى السماء حاملين الدعوات والإستغفارات. ثم يهبطون إلى الأرض حاملين الرحمات. بينما هناك ملائكة أخرى تحيط بالجبل من كل صوب، مبهورين الأنفاس من فرط السعادة. الجبل الذي كان صحراء جرداء منذ بضعة أيام، إكتسى باللون الأبيض.


أتى المسلمون من كل أرجاء العالم، يلبون الدعوة. جميعهم يرتدى الزى الأبيض البسيط. الغنى والفقير، الوزير والغفير، الصغير والكبير، الرجال والنساء. زى بسيط يعبر عن عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.

الحجاج يبكون في ندم على ذنوبهم، يلبون ويكبرون. تكبيراتهم تخرق عنان السماء، تسرى في الكون بأسره، فترتجف الشياطين. في نفس هذا التوقيت من كل عام، يرتجف الشياطين. يشعرون بالتخاذل والهوان، ينتابهم اليأس والإحباط. كل ما فعلوه طوال العام يضيع هباءً. في هذه الأيام المعدودات تضعف همتهم ويزول سلطانهم. خطواتهم السريعة الخفيفة تصبح ثقيلة بطيئة، كأن هناك قيود خفية جبارة تكبلهم إستعدادًا لإنتقام المنتقم الجبار.

إلتفوا حول أبيهم الكبير "إبليس"، يرقبون في قلق ما يحدث على جبل عرفات من خلال البلورة السحرية. قال أحدهم:
- إنهم أربعة ملايين هذا العام.
قال الثانى مذعورًا:
- كل هؤلاء سيرجموننا إبتداءً من الغد.
قال ثالث وهو على وشك البكاء:
- جمراتهم تخرق جسدى. أشعر بروحى تنسحب منى كأننى في مرحلة وسط بين الحياة والموت.
قال الرابع:
- بل الموت أرحم من هذا.
إلتفت الخامس إلى أبيه "إبليس" ثم قال في حنق:
- لماذا وسوست إليهم؟ ألم تكن تعلم أنهم أنبياء؟
هب "إبليس" واقفًا ثم قال في ثورة:
- لم أكن أعلم أن الله سيأمرهم برجمنا.
قال أحد أبنائه متبجحًا:
- أنت السبب إذن. أنت الذي وضعتنا في هذا الموقف المهين.
راح "إبليس" يرقب الآنية الفخمة التي يعد بها سمومه. الوساوس والأفكار الخبيثة تغلى وتفور، بالرغم من ذلك فهو عاجزًا عن فعل أي شئ مع هؤلاء المؤمنين، ثم إلتفت إلى أبنائه وهو يقول:
- كفاكم هذا. دموعهم تسرى في جسدى مثل الصعقات الكهربائية.
قال أحد الأبناء ثائرًا:
- الغريب في الأمر، أن الله يسامحهم ويتقبل إستغفارهم رغم كل آثامهم.
إلتفت "إبليس" يرقب ما يحدث على جبل عرفات ثم قال:
- يا ولدى إنه الرحمن الرحيم.
قال الإبن الثائر:
- ألن ننتهى من هذا العذاب؟
برقت عينا "إبليس" بوميض خاطف ثم قال:
- لا تقلقوا. هذا العام سيكون أفضل الأعوام.
قال ذلك ثم إتجه إلى الآنية التي يعد بها سمومه، إغترف منها قطرات قليلة وراح يرشها على جبل عرفات. ضحك أحد الأبناء ساخرًا:
- وساوسك لن تجدى مع هؤلاء المؤمنين.
وضحك "إبليس" قائلًا في هدؤ:
- صبرًا يا ولدى. ثمرة وحيدة تالفة تسبب التلف في كل الثمار.
*******
كان بين الحجاج سلطان كبير ذو شأن عظيم، حوله حاشية ضخمة من الحراس والحجاب، تظله مظلة ناصعة البياض يحملها أربعة رجال في غاية الضخامة، بينما بقية الحاشية يتلفتون حول أنفسهم يرقبون الحجاج بنظرات متجهمة شرسة، يدفعون كل من يحاول الاقتراب في غلظة.
بعد الانتهاء من صلاتى الظهر والعصر، جلس السلطان يرتشف العصير المثلج. تقدم نحوه كبير الحراس، إنحنى في أدب وقال:
- سموك ستوكل من في رمى الجمرات؟
أجاب السلطان مندهشًا:
- لماذا أوكل أحدًا؟ أنا في كامل صحتى.
إرتجف كبير الحراس ثم قال في تردد:
- مولاى، الحجاج كثيرين، هناك مخاطر شديدة من وجودك بينهم.
قال أحد الحاشية:
- من الممكن أن يكون هناك بعض المعارضين. سموك تعلم مدى حقدهم. إنهم يثيرون الغضب في نفوس الناس بكلام براق.
قال السلطان في حسم:
- لست أقل إيمانًا من هؤلاء البسطاء. ما فائدة السلطة إذا لم أستمتع بحجتى؟
إنحنى كبير الحراس قائلًا في خضوع:
- تحت أمر سموك.
في هذه اللحظة، إنسحبت بعض الملائكة من حول الجبل، إتجهوا إلى منطقة المزدلفة. فرشوا الطريق بالرحمات تمهيدًا لمرور المؤمنين. عندما وصلوا إلى المزدلفة راحوا يحلقون في المكان سعداء. بكى بعضهم من فرط النشوة لأن ربهم كرمهم وشرفهم للقيام بهذا العمل الجليل. ثم راحوا يمسحون المنطقة كلها بأجنحتهم، بقدرة القادر تحولت كل حجرة، كل حصوة، كل ذرة رمل، لتكون بردًا وسلامًا في أيدى المؤمنين وجمرات تلسع وتحرق الشياطين.
بعد أن مالت الشمس نحو المغيب، والانتهاء من صلاة المغرب، بدأ الجميع في الاتجاه إلى المزدلفة. يتمتون بالأدعية وقرأة القرآن، والبعض الآخر يبكى ويلبى، وآخرون يستعيذون من الشيطان الرجيم.
رغم الزحام الشديد على الممر الخاص بالمشاة والطريق الخاص بالسيارات، إلا أن جميعهم في غاية السعادة والنشوة. بسبب الرحمات التي فرشها الملائكة في الطريق، شعر الحجاج أن الطريق تحتهم أملس ناعم، فيسرى في جسدهم خدر لذيذ مفعم بالإيمان والتقوى.
الوحيد الذي ضاق بالزحام هو السلطان. شعر بالطريق طويلًا وعرًا رغم أنه يختبئ داخل سيارة مجهزة بكل وسائل الراحة والرفاهية، محاط بموكب ضخم من الحراسة.
في المزدلفة، راح المؤمنون يجمعون الحصوات. من المفروض جمع ثلاثة وستين حصوة، إلا أن جميعهم يجمع أكثر من هذا العدد تحسبًا إذا ضاعت بعض الحصوات في الطريق. وإنهمكت حاشية السلطان في جمع الحصوات، ثم غسلوها جيدًا ووضعوها في حقيبة جلدية فاخرة، إنها جمرات السلطان، ثم عطروها حتى يسعد سموه برمى الجمرات. لم ينتبه أي منهم أن ما فعلوه في الحصوات أبطل المفعول الغامض الذي فعلته الملائكة.
مع بزوغ فجر أول أيام العيد، إنطلق المؤمنون لرمى الجمرات. إرتجفت الشياطين عندما رأوهم متجهين نحوهم. حتى أبيهم "إبليس" إرتجف رغم ثقته من أن وسوسته أتت بمفعولها في نفس السلطان وحاشيته.
إنهمرت الجمرات تحرق الأبالسة الذين كانوا يصرخون. حاولوا الهرب، لكن الأغلال كانت ثقيلة محكمة، سلاسل ربانية ولا سبيل للفكاك منها.
قرر السلطان الإنطلاق لرمى الجمرات في العاشرة صباحًا، بعد تناول الإفطار مع فنجان القهوة المعتاد.
من التاسعة صباحًا، إنطلقت الحاشية بين الجموع، راحوا يدفعون بالمسلمين يمينًا ويسارًا ليفسحوا الطريق للسلطان. سقط المسلمون، داسوا على بعضهم البعض. اختفت الصرخات بين الزحام والضجيج. مات كثيرين تحت الأقدام ولقوا ربهم بنفس راضية في الأراضى المقدسة.
ضحك "إبليس" عندما رأى المسلمين يدوسون بعضهم البعض، قهقه عندما رأى السلطان يتقدم حاملًا الجمرات المعطرة. صرخ في ذريته يحثهم للوقوف أمام حصوات السلطان، من تصيبه حصوة واحدة من حصوات السلطان سيفوز فوزًا عظيمًا.
تحولت حصوات السلطان إلى ورود سحرية، رحيقها بلسم شافى من كل الجروح التي أحدثها المؤمنون...


hossamaboseda@gmail.com

Advertisements
الجريدة الرسمية