رئيس التحرير
عصام كامل

«القرية.. الأم.. الحزب.. والسجن».. وجه آخر لحياة «الماغوط»

محمد الماغوط
محمد الماغوط
«الوحدة حاضرة.. الأمل على قيد الحياة.. والفوضى سيدة اللحظات».. ثلاثية غريبة يمكن استخدامها عند الحديث عن بعض «سنوات الشاعر السوري محمد الماغوط»، سواء تلك التي كانت في قريته «السلمية» قبل أن تتحول إلى مدينة، أو علاقته بـ«المرأة القوية الصلبة» التي يسميها في موضع ثاني «أمي»، وحتى في الانتماء الحزبي، لم يكن «الماغوط» شبيهًا بأحد، فقد حدد انتمائه بناء على «درجة الحرارة»، فالبرد القارس داخل مقر حزب «البعث» جعله ينفر ويفر سريعًا لينام في حضن «مدفأة القومي السوري»، وهو الذي طالبوه يومًا بجمع تبرعات فما كان منه إلا أن جمع ما مكنه من شراء «بنطلون»، وبعد سنوات وسنوات يعترف «لم أقرأ صفحتين عن مبادئ الحزب».. إنه «الماغوط» الثائر حد «الفوران».. والفوضوي حتى الثمالة.. والحالم حتى النهاية. 


القرية.. عندما يصبح الموت طبيعيًا 
ويروي «الماغوط» عن «سنوات البداية» قائلًا: «في مطلع الثلاثينات، لم تكن السلمية مدينة، كانت قرية نائية وباسلة تنظر إلى وحلها ودخانها وعيونها المحمرة كما تنظر الفرس إلى أجراسها، أما التاريخ الرقم المتسلسل في المعارك الكبرى فيظل في جيب المختار، ما أتذكره، أن الموت كان طبيعيا في تلك القرية، ضروري ومتوقع في كل لحظة، وعلى هذا الأساس كان أطفال القرية شرسين كالحشرات، ورجالها لا يتورعون عن ضرب أشجارهم بالسوط لأنها لم تثمر في الوقت المحدد، حتى دجاجها كان يصرخ باستمرار كأنه مصاب بذات الرئة، وقلما تجد دجاجة حية أو ميتة إلا وعلى رأس منقارها قطرة أو قطرات دم، وعلى العموم كان السلمية نقطة زيت كبيرة في ماء الوطن، ولقد فكرت السلطات المتعاقبة جديا في تقطيعها كالحية هي وكهولها وشبابها ومقابرها ووضعها داخل كيس ثم قذفها إلى الجحيم. 

وأضاف: ربما كان عمري خمس سنوات، وأنا أتشبث في حضن أمي، أتذكر صورة سماء شاحبة وسحب ورمال، وحين كنت في السابعة من عمري، أطلقتني أمي لأول مرة خارج باحة البيت لأرعى الخراف فيما تبقى من المروج النامية مصادفة بين المخافر، وعند الأصيل عادت الخراف ولكن الراعي لم يعد. 

الأم.. صلبة كـ«صخرة» حنونة كـ«ابنة»
الشاعر والأديب محمد الماغوط، رجل ثار على كل شيء إلا أمه، التي يعتبرها وطنه الأول، وحبه الأول، ومعلمه الأول، حيث قال عنها: «والدتي كانت امرأة قوية وصلبة، عملتها الحياة أن تعتمد على نفسها في تربية أبنائها، ولقد أصيبت في ركبتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وأثر ذلك، ولم تعد تستطيع طيها إطلاقًا، وكانت كثر الحركة. وأذكر أنها زارتني في أيامها الأخيرة هنا في دمشق وكان عمرها يتجاوز الثمانين، لكن شعرها ظل يصل إلى أسفل ظهرها، وكان الجواهري في زيارتي وقد أصيب بالذهول من حديثها وفهمها للحياة، حتى أنه كتب خمسة أبيات فيها، لكنني أضعت هذه الأبيات، ولا أعلم شيئا عن مصيرها». 

وتابع: «أما والدي فكان رجلًا مسالمًا وفقيرًا، قضى حياته في الحصاد، والعمل في أراضي الآخرين كأجير، وهذا ما جعل والدتي تفرض سطوتها على المنزل، أمي كانت امرأة جميلة وشاعرية في طبعها، وتحب الزهور، لكن حنانها وحبها لنا، لم يمنعها من أن تكون صارمة حين يتطلب الأمر. 
أمي أعطتني الحس الساهر، الصدق والسذاجة، رؤية العالم كحلم قابل للتحقق، حين سجنت لأول مرة في «سجن المزة» جاءت أمي من السلمية للبحث عني والاطمئنان على حياتي، وهي لم تزر دمشق من قبل. ركبت البوسطة وجاءت إلى دمشق. 

«صوبيا السوري القومي».. الدفء يجذب «الماغوط» 
«سخرية مُرة» استراتيجية اعتمدها «الماغوط» عندما أراد أن يكون سياسيًا، فلم يتعب كثيرًا أو يتنقل بين «خنادق السياسة»، بل سرعان ما جعل «درجة حرارة الجو» هي التي تحكم اختياره، حيث يروي عن هذه الفترة من حياته: «كنت عضوًا في الحزب السوري القومي، وحصل الأمر دون قناعة تُذكر. ربما كان الفقر سببًا في ذلك، فبالنسبة لفتى يافع فقير مثلي كنت بحاجة إلى انتماء ماء. وكان هناك حزبان يتنافسان في السلمية، هما حزب البعث، والحزب السوري القومي، وفي طريقي للانتساب إلى أحدهما، اتضح لي أن أحدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة (صوبيا)، ولأنني كنت متجمد الأطراف من البرد اخترت الثاني دون تردد، لأنه قريب من حارتنا وفي مقره مدفأة. وصراحة إلى الآن لم أقرأ صفحتين من مبادئه، ومنذ أن انتهت موجة البرد الأولى، لم أحضر له اجتماعًا، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلفوني بها بجمع تبرعات من إحدى القري التي كنت أعمل في بساتينها، فجمعت التبرعات والاشتراكات واشتريت بها بنطلونًا وذاك وجه الضيف، لكنني سجنت بسببه أكثر من مرة. 

وأكمل: «أنا بطبيعتي فوضوي، لم أنتسب بشكل واضح أو منطقي، ولم أغادر بشكل منطقي. كانت لدى حاجة ما للانتماء كوني فقيرًا مسحوقًا، وكان الحزب يشكل نوعًا من الحماية لشخص لا يملك مالًا ولا جاهًا، وكان الأمر يشبه التقليد الاجتماعي، لكن سرعان ما شعرت بالسأم من الخطاب والتنظير. كان إحساسي بالظلم والعار القومي، أكبر بكثير من أي منشور سياسي، فماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعتبر المحيطات وتشق عباب الموج، وأنا لا أستطيع أن أعبر زقاقًا موحلًا طوله متران؟! ».

السجن.. عندما رأيى«الماغوط» الحذاء 
«الخوف ميراثه».. نتيجة تكشفها حوارات وتصريحات وقصائد ومقالات ونكات «الماغوط»، وهو الذي أصيب به بعدما أصبح مجرد رقم في «سجلات السجون»، حيث قال عن هذه الفترة: في السجن انهارت كل الأشياء الجميلة أمامي، سقطت جماليات الحياة، ولم يبق أمامي سوى الرعب والفزع فقط لا غير، فقد فوجئت بالقسوة والرعب وبضغوط قاسية على شخصي الضعيف، إذ لم أكن مؤهلًا آنذاك نفسيًا أو جسديًا لما تعرضت له من هول وذل، وكان السجن المبكر هو بداية صحوة الشباب، وبدلا من أن أرى السماء، رأيت الحذاء، حذاء عبد الحميد السراج، وهذا ما أثر على بقية حياتي. نعم رأيت مستقبلي على نعل الشرطي، ومن خلال عرقة المتصبب فرحًا على ما يحدث من تعذيب. 

وأضاف: والآن، حين أتذكر حفلات التعذيب وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أتساءل: «ما هي تهمتي بالضبط؟»، ولم أجد إجابة شافية على هذا السؤال. كنت وقتها مجرد فلاح وريفي بسيط، لا يعرف من العالم إلا حدود قريته فقط، كمعرفة الرضيع للحياة. ثمة طموحات، لكنها كانت ضبابية، لأنني لم أكن قد اهتديت إلى الطريق بعد، لم أكن أعرف كيف أعبر هذه الأحلام، ولعل من فضائل عبد الحميد السراج عليّ، أنني تعلمت أشياء كثيرة في السجن، تعملت كيف أقول «أه» ذقت طعم العذاب. والمثير أنني أنا الذي لم أكمل تعليمي، قد تعلمت كثيرًا من السجن والسوط العربي الذي بيد السجان. السجن والسوط كانا معلمي الأول، وجامعة العذاب الأبدية التي تخرجت منها، إنسانًا معذبًا، خائفًا إلى الأبد. 

ورغم أن تجربة «الماغوط والقضبان» لم تكن بـ«السنوات»، إلا أنها تركت آثارها باقية على جدران روحه، وهو ما تكشفه تصريحاته عندما قال: السجن ليس بالأيام أو الأعوام، إنما باللحظة.. صحيح أني لم أسجن طويلًا، ولكني حين سجنت في المرة الأولى، رأيت الواقع على إيقاع نعل حذاء الشرطي الذي كان يضرب على صدري.. أحسست بشيء ما بداخلي يتكسر، ليس الضلوع، لكنه شيء عميق. وفي الزنزانة زارني الخوف وعرفني، وأقام معي صداقة لا زالت قائمة بداخلي حتى اللحظة، صار الخوف يسكنني، وهرب مني الأمن لآخر لحظة في عمري.. الآن حين يرن جرس الباب أشعر بالرعب، وحين يرن الهاتف، أتوجس خوفًا. فقدت حسي بالبراءة منذ تلك الفترة، وأدركت أن العالم ليس بريئا كما كنت أتصور.

كنت أرى البراءة في كل شيء حولي، ولكن بعد تجربة السجن فقدت هذا الإحساس بكل شيء: بالبشر والأحزاب والسياسيين ورجال الشرطة والشعراء.. واليوم أصبح الخوف هو الشيء الوحيد الذي أملكه من المحيط إلى الخليج، ولدي في أعماقي «احتياطيًا» من الخوف أكثر مما عند السعودية وفنزويلا من احتياطي النفط، وإلى آخر شهقة في حياتي، أنا أحمل السجن على ظهري، تمامًا مثل «ماكيت» مجسمّ. 
الجريدة الرسمية