رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

مصر تفقد أمريكا توازنها.. الولايات المتحدة تخشى من نفوذ الجيش.. وتغازل الإخوان بوقف المعونة.. إسرائيل تعرب عن قلقها من رد فعل القاهرة.. وكامب ديفيد صداع في رأس تل أبيب

الفريق أول عبد الفتاح
الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع

تمثل مسألة تعليق القسم الأكبر من "المساعدة" العسكرية والمالية الأمريكية إلى مصر أحدث دليل على تعاظم مأزق الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط.

إنها تشير بوضوح إلى تراجع تأثيرها على مسار الأحداث الدراماتيكية الحاصلة في هذه المنطقة الحيوية، وإلى أنها تفقد تدريجيا حلفاء أساسيين ما كانوا ليجرؤوا بالأمس القريب على الدخول في اشتباك علني مع توجهاتها.

كانت مصر أولى البلدان التي أحدث خروجُها من الصراع العربي - الإسرائيلي خللًا في موازين القوى الإقليمية لمصلحة التحالف الأمريكي - الإسرائيلي، وجاءت اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 لتكبل دور مصر الإقليمي وتحصر حضورها إلى نطاق ضيق لتنصرف بشكل أساسي إلى معالجة شئونها الداخلية اقتصاديا وأمنيا.

واستخدمت الولايات المتحدة برنامج مساعدات سنوي إلى مصر بقيمة 1550 مليون دولار تقريبا لتحفز النظام المصري السابق على الالتزام بنطاق الدور المرسوم له.

غير أن التطورات التي شهدتها المنطقة العربية ابتداء من العام 2011 كشفت الفراغ الهائل الذي يعتري الدور القيادي الأمريكي في المنطقة، واقترن ذلك مع إخفاقات مهمة في العراق وأفغانستان وفي ترتيب تسوية للقضية الفلسطينية.

ووقفت الإدارة الأمريكية تراقب ما يحدث في الشارع العربي، محاولة التأثير في مساره بسياسة علاقات عامة تخاطب بها النخب والشارع في آن واحد، لكن أدوات الضغط لديها لم تعد ذات فاعلية كبيرة حتى حلفاؤها التقليديون من النخب العسكرية وحكومات الخليج باتوا يجدون في أنفسهم "الجرأة" على مخالفة رأي واشنطن، والسبب ببساطة أن إعادة ترتيب البيت الداخلي في هذه الدول - في ضوء صعود أو هبوط قوى معينة - أصبح قضية حياة أو موت بالنسبة لهذه الأطراف التي تخشى صعود جماعات مثل "الإخوان المسلمين" ذات الامتداد في العديد من البلدان العربية.

يضاف إلى ذلك أن السياسات الإقليمية التي كانت تجمع هذه الحكومات مع الولايات المتحدة في صف واحد ضد إيران أو ضد سوريا مثلًا أضحت مثار اختلاف بسبب جنوح واشنطن إلى تسوية ملفات ساخنة بمعزل عن حلفائها التقليديين.

إنه شرق أوسط متحول يشهد على حراك داخلي لم يستقر بعد، وعلى وهن أصاب الولايات المتحدة في سياستها الخارجية، كما أصيبت في قدراتها وتناغمها الداخلي (بعض المعلقين الأمريكيين يرون اليوم أن واشنطن التي تصارع من أجل معالجة مشكلة ديونها المالية تعاني من أزمة قيادة تاريخية).

لقد عملت الولايات المتحدة لعقود على دعم "سياسة الاستقرار" في البلدان الحليفة ومنها مصر، بصرف النظر عن طريقة الحكم وإدارة الوضع الداخلي فيها، والذي كان شاهدا على انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان و"معايير الديمقراطية" الأمريكية.

بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، ألقت إدارة جورج بوش الابن جزءًا من المسئولية عن تنامي الإرهاب ووصوله إلى أراضيها على عاتق الأنظمة العربية الحليفة، وضغطت لإحداث تحولات "ديمقرطية" بهدف التخلص من "جذور الإرهاب"، الأمر الذي أحدث قلقًا عميقًا لدى حكومات هذه الدول.

غير أن التورط الأمريكي في أفغانستان والعراق بتكلفة ضخمة، مصحوبًا بتهور واستعلاء أمريكيين، ارتد سلبًا على قوة المد الأمريكي.. لاحقًا اضطرت واشنطن لأن تغير من رؤيتها لتركز على "القوة الناعمة" التي تقوم على استخدام أدوات دبلوماسية وإعلامية واقتصادية.

لم تعد الديمقراطية أولوية أساسية، فقد حدد الرئيس باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام أربع قضايا تمثل صلب اهتمامات بلاده وهي: حماية الحلفاء، ضمان استمرار تدفق النفط، محاربة الإرهاب، ومنع استخدام أسلحة الدمار الشامل، برغم تأكيده الحرص على الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الأسواق.

أما في خصوص مصر، فيقول أوباما: "مقاربتنا للوضع في مصر تعكس نظرة أكبر، الولايات المتحدة قد تعمل في أوقات معينة مع حكومات لا تتوافق مع أعلى المعايير الدولية، لكنها تعمل معنا بما يتفق مع جوهر مصالحنا"، معترفًا بأن على الولايات المتحدة أن تكون متواضعة حيال تحديد قدراتها على رسم مسار الأحداث في الشرق الأوسط.

لقد وجهت الإدارة الأمريكية رسائل عدة باتجاه المؤسسة العسكرية المصرية، من خلال قيام مسئولين من الحكومة الأمريكية والكونجرس بزيارات متتالية إلى القاهرة، وإجراء اتصالات هاتفية منتظمة بين مسئولي الجانبين، والتلويح بوقف المعونات الأمريكية وصولًا إلى إلغاء المناورات المشتركة مع الجيش المصري الصيف الماضي، وكلها لم تؤد الغرض المأمول منها لجهة إجبار الفريق أول عبد الفتاح السيسي - وزير الدفاع - على تخفيف وطأة التدخل في الحياة السياسية في بلاده.

وهناك من الأمريكيين من يرى أن الرسالة الأخيرة المتعلقة بوقف الجزء الأكبر من المساعدات العسكرية والمالية عن مصر "مثيرة للالتباس ومن غير المرجح أن تغير مسار الفريق "السيسي" المتحكم في الحكومة الانتقالية، والذي يؤسس لنفسه دورا باعتباره الرجل الوطني الشعبوي القوي".

ويبدو من المعطيات الحالية أن الوضع الداخلي في مصر بلغ نقطة اللاعودة؛ حيث ينظر المصريون من كل الاتجاهات تقريبا إلى الدور الأمريكي على أنه دور غير نزيه ويتسم بالإزدواجية، ويتهم الفريق الموالي للحكومة الانتقالية الإدارة الأمريكية بمحاباة الإخوان المسلمين والتفاهم معهم سرا بشأن حكم البلاد، أما فريق الإخوان فيرى أن واشنطن لم تفعل الكثير لأجل الضغط على المؤسسة العسكرية.

ومن هنا يمكن فهم بعض دوافع خطوة تعليق المساعدات على أنها تهدف إلى كسب ود الإخوان باعتبارهم قوة يمكن البناء عليها للمستقبل، كما تهدف إلى إعادة ترويض القيادة العسكرية المصرية وإبقائها تحت السيطرة.

وهناك نظرة مستجدة في واشنطن ترى أن دور مصر الافتراضي لجهة تعزيز ثقل السياسة الأمريكية في المنطقة لم يعد كما كان، وأنه ليس من الضروري الإبقاء على سياسة المساعدات كما هي حاليا.

ويقول أصحاب هذه النظرة: إن لدى مصر فائضًا من الأسلحة الأمريكية المتطورة مثل طائرات إف 16 (نحو 240 طائرة) ومروحيات أباتشي ودبابات أبرامزM1A1 وصواريخ هاربون المضادة للسفن، ويكشف هؤلاء أن الولايات المتحدة تحاول منذ سنوات تغيير نوعية مساعداتها العسكرية لمصر في اتجاه تقديم أسلحة أقل أهمية ومعدات تخدم أغراضًا محددة مثل مكافحة الإرهاب.

ويبرر مسئولون أمريكيون هذا الرأي بأن المعدات المكلفة مثل طائرات إف 16 ليست ضرورية الآن للتعامل مع "المصالح الأمنية الحيوية"، كما أنها - في ظل غياب اليقين حيال مستقبل مصر- قد تقوي الجيش المصري وتزيد التهديدات لإسرائيل.

وهذه النظرة الأمريكية تعكس اعتقادًا بأن دور مصر الإقليمي الملتزم أمن إسرائيل ودعم أسس التسوية للصراع العربي - الإسرائيلي آخذ بالتغير باتجاه الانغماس أكثر في الوضع الداخلي المفتوح على احتمال نمو "الإرهاب"، مما يتطلب إعادة تقييم نوعية المساعدات المطلوبة وتحديد وظيفتها.

يدور جدل في واشنطن بشأن انعكاس هذا التطور على العلاقات الأمريكية – المصرية، بين قائل بأن تعليق المساعدات سيضعف النفوذ الأمريكي في مصر، وسيدفع إلى تنامي الروح الوطنية المعادية للولايات المتحدة والنفوذ الأجنبي، وقائل بأنه حتى لو لم يؤدِ وقفُ المساعدات إلى ضبط سلوك الحكومة المصرية التي يقودها العسكر فإن تكاليف المساعدات بأي حال قد تفوق منافعها.

وتجزم مصادر أمريكية بأن العلاقات ستبقى قائمة مع الجيش المصري لحاجته إلى دعم مستمر في مكافحة الإرهاب، وتوفير قطع احتياطية للمعدات العسكرية واستمرار التدريبات، وأن من الصعب على الجيش المصري أن يغير وجهة التسليح والتدريب في شكل جوهري بعد نحو أربعة عقود من الارتباط بالولايات المتحدة.

وتعول واشنطن على أن التعليق الجزئي للمساعدات يمكن أن يكون حافزا للجيش المصري؛ لكي يراجع حساباته السياسية؛ حيث يكون الجزء المتبقي من المساعدات بمثابة الجزرة التي تشدّه إلى الولايات المتحدة، كما ترى "شانا مارشال" من معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن.

بعض المصريين يستعيدون تجربة الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينات حين أوقفت الولايات المتحدة تزويد مصر بالأسلحة، فاتجه ناحية الاتحاد السوفيتي، وكانت هذه الانعطافة بداية صدام طويل وشرس مع أمريكا.. الآن لا ضمانة في عدم تكرار التجربة أو على الأقل الاتجاه إلى تنويع مصادر التسلح، وإن كان الجيش المصري حاليا أكثر ارتباطًا بالسلاح الأمريكي؛ حيث يحتاج إلى التزود بقطع الغيار لأسلحته ذات التصنيع الأمريكي.

ثمة محذور تلاحظه الحكومة الإسرائيلية التي تتخوف من أن تؤدي الخطوة الأمريكية إلى تغير في المزاج العام المصري باتجاه الدعوة إلى مراجعة اتفاقية كامب ديفيد، باعتبار أن الاتفاقية عبارة عن رزمة واحدة، وتمثل المساعدات العسكرية لمصر جزءًا منها، ويشبّهها إيهود يعاري المحلل في القناة الإسرائيلية الثانية بقطعة طوب في جدار كامب ديفيد، قد يؤدي انتزاعها إلى انهيار الجدار.

Advertisements
الجريدة الرسمية