رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

وصفة "الجرافة" ماغوفولي الإصلاحية

مر الإعلام العالمي سريعاً على حدث مهم، ربما لأنه في دولة أفريقية لا تلقى اهتماماً عالمياً، فقد توفي الرئيس التنزاني الإصلاحي المثير للجدل جون ماغوفولي، وحلت مكانه نائبة الرئيس سامية سولوهو حسن، لتصبح ابنة زنجبار أول امرأة وأول مسلمة محجبة تتولى الرئاسة في تنزانيا، وبعد أن أدت اليمين الدستورية في العاصمة التجارية دار السلام، أطلقت المدفعية 21 طلقة تحية على شرفها كقائدة عامة للقوات المسلحة، ثم استعرضت حرس الشرف ورفعت العلم إلى المنتصف، حيث أعلنت البلد حدادا عاما على الرئيس ماغوفولي..


اختار الرئيس ماغوفولي سامية حسن نائبة له في العام 2015، وأعيد انتخابها معه العام الماضي، وبهذا تتولى الرئاسة ما تبقى من السنوات الخمس، منضمة إلى عدد قليل من زعيمات السياسة في أفريقيا، ممن تولين قيادة بلدانهن، باعتبار أن رئيسة إثيوبيا دورها شرفي. ويطلق على الرئيسة التنزانية ماما سامية، ما يعكس الاحترام الكبير لشخصها وقيادتها منذ اختيرت نائبة للرئيس قبل 6 سنوات، فهي تتسم بالهدوء والحكمة والقدرة على اتخاذ القرار المناسب فضلا عن احتواء الغاضبين، ما جعلها تبدو في مرات عدة أكثر روية وتأنيا من الرئيس ماغوفولي الثائر والمندفع.

الغريب أن الإعلام العالمي لم يذكر للرئيس التنزاني الراحل الإصلاحات الجمة، التي نفذها في بلده ومواجهته الفساد والرشوة بطرق فريدة، وتوقف مليا عند وفاته بفيروس "كورونا" الذي أنكر وجوده ورفض تطبيق الاحترازات لمكافحته.

بداية العمل السياسي
اختفى الرئيس الراحل منذ 27 فبراير الفائت، وحين أعلنت نائبته وفاته "متأثرا بمرض في القلب"، بدأ التشكيك في مرضه بالقلب، وتعززت فرضية إصابته بالفيروس المستجد، إثر تداول تقارير سابقة عن إصابة بعض مساعديه بفيروس كورونا، ثم ذكرت تقارير أخرى أن مسؤولين في تنزانيا ماتوا جراء الإصابة بالفيروس، كما تضاربت الأنباء عن مكان علاج الرئيس قبل وفاته، فالبعض قال إنه كان في الهند، بينما أفادت وسائل إعلام كينية، إن زعيما أفريقيا يعالج لديهم من مضاعفات "كورونا".

نشأ جون ماغوفولي، نجل المزارع في أسرة فقيرة، واضطر للعمل في صباه بجانب الدراسة للمساعدة في إعالة أسرته، وبعد إتمام تعليمه امتهن التدريس، قبل أن يبدأ العمل السياسي رغبة في خدمة الشعب قائلا "أعرف تماما ماذا يعني أن تكون فقيرا".

نجح ماغوفولي سريعا في مشواره السياسي، ونال لقب "الجرافة" لقيادته برنامجا طموحا لبناء الطرق كوزير للأشغال، ولاحقا تم الثناء عليه لمناهضته الفساد وإهدار المال العام واهتمامه بالإصلاح، لكن اتهمته المعارضة بالقمع وتقليص الحريات وجر البلد نحو الاستبداد، حين أصبح رئيسا لتنزانيا في العام 2015، لكن أعيد انتخابه لفترة رئاسية ثانية العام الماضي وسط غضب المعارضة.

لكن رغم التضييق على المعارضة، كانت الإصلاحات واضحة والقضاء على الفساد والرشوة في أعلى مستوياته، ما أدى إلى زيادة الإعجاب به في تنزانيا وخارجها إلى حد أن أحد أساتذة الجامعة في كينيا دعا إلى تعميم نموذج الرئيس التنزاني في أفريقيا، خلال خطاب عام جرى تداوله على نطاق واسع.

إصلاحات بالجملة
منذ اليوم الأول لعهده الرئاسي، أكد ماغوفولي أنه لن يتسامح مع التسيب الوظيفي، وقام بزيارات مفاجئة لوزارات الدولة ليقف بنفسه على حجم المتغيبين، ثم اتخذ إجراءات فورية ضدهم، كما قضى على ظاهرة الموظفين الوهميين، المسجلين في المرتبات العامة دون عمل فعلي، وخلص الهيكل الإداري للبلد من الفاسدين والمتقاعسين عن الإنتاج.

اكتسب الرئيس الاحترام والإعجاب العام وهو يجمع بنفسه القمامة في العاصمة، بعدما أمر بإلغاء احتفالات عيد الاستقلال، للمرة الأولى منذ 54 عاما، لأنها تكلف خزينة الدولة الكثير وجعله يوما وطنيا للنظافـة.
وقرر ماغوفولي تقليص ميزانية حفل افتتاح البرلمان الجديد من 100 ألف دولار إلى سبعة آلاف فقط، على أن تحـّول هذه المبالغ لاستكمال النواقص في التجهيزات الصحية، وشراء أسرة للمستشفى الرئيسي بالعاصمة التنزانية بعدما زار المستشفى بشكل مفاجئ، فوجد المرضى يفترشون الأرض، والأجهزة الطبية معطلة، فقرر عزل جميع المسؤولين في المستشفى، وأعطى مهلة أسبوعين للإدارة الجديدة لإصلاح الأوضاع وإلا ستلحق بالإدارة السابقة، فأصلحت كل شيء خلال ثلاثة أيام.

قلص الرئيس ماغوفولي، عدد وزراء الحكومة من 30 إلى 19 وزيرا، مع تكليفهم بأعمال إضافية، وفرض على جميع الوزراء وقيادات الدولة الكشف عن أرصدتهم وممتلكاتهم، وهدد بإقالة أي وزير أو قيادي لا يكشف عن ممتلكاته وأرصدته، حتى يقضي على الفساد والرشوة، وفي الوقت نفسه أقال رؤساء مكافحة الفساد ومصلحة الضرائب، وهيئة السكة الحديد، بتهم مختلفة، واستغل المال المتوفر من كل هذا في مكافحة وباء الكوليرا.

من بين قرارات الرئيس التقشفية، منع سفر الوزراء وقيادات الحكومة في مقاعد الدرجة الأولى بالطائرات، وتقليص الوفود التي تمثل تنزانيا في الخارج، فمثلا أرسل أربعة مسؤولين فقط بدلا من 50 شخصا لحضور اجتماعات اتحاد دول الكومنولث.

تنمية الإيرادات
وفي مداهمة مفاجئة لميناء العاصمة التجارية، اكتشف تجاوزات ضريبية واختلاسات مليونية من العائدات، فأمر باعتقال رئيس الديوان وكبار مساعديه، واحالهم إلى محكمة الجنايات، وفي الوقت نفسه باع جميع السيارات الفارهة التابعة للدولة في مزاد علني، ومنح الوزراء وقيادات الحكومة سيارات متواضعة بدلا منها، على أن تحول حصيلة مزاد السيارات إلى خزينة الدولة.

صحيح أن ماغوفولي، زاد الضرائب وأقر قوانين جديدة تهدف إلى تنمية الإيرادات العامة، لكن يتفق الجميع موالاة ومعارضة أن ماغوفولي ساهم في تنمية تنزانيا، حيث استثمر في مشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل إنشاء خط سكة حديد قياسي لربط البلاد بجيرانها الإقليميين، وتوسيع الطرق السريعة الرئيسية، وصناعة حافلات النقل السريع، وزاد إنتاج الكهرباء مما قلل الحاجة إلى ترشيد الطاقة. كما أعاد إحياء شركة طيران تنزانيا التي تديرها الدولة.

وحرص الرئيس على زيادة الموارد من شركات التعدين متعددة الجنسيات بطريقة فريدة، ففي العام 2017 أرسل فاتورة ضريبية بقيمة 190 مليار دولار لشركة كندية مستثمرة في تنزانيا، وكجزء من التسوية مع الحكومة التنزانية وافقت الشركة على دفع 300 مليون دولار، بجانب تأسيس شركة تشغيل جديدة تمتلك فيها الحكومة التنزانية نسبة 16 في المئة من المشروع المشترك، مع تقاسم العوائد الاقتصادية المستقبلية غير المحددة من المناجم بالتساوي.

هذا بعض مما قدمه الرئيس الراحل لبلده، لكن الغرب ترك إنجازاته وتوقف عند حقوق الإنسان وقمع المعارضة، ونست الدول الأجنبية أنها لا تلتفت لحقوق الإنسان عندما تصل الأمور إلى الأمن القومي.
Advertisements
الجريدة الرسمية