رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

من بئر رومة إلى سد النهضة!

بعد فشل جولة المفاوضات التي عقدت في كينشاسا حول سد النهضة الإثيوبي خلال يومي 4 و5 إبريل 2021 والتي لم تحقق تقدما، حيث رفضت إثيوبيا المقترح الذي قدمه السودان وأيدته مصر، بتشكيل رباعية دولية تقودها جمهورية الكونغو الديمقراطية التي ترأس الاتحاد الإفريقي للتوسط بين الدول الثلاث، ورفضت إثيوبيا كذلك خلال الاجتماع كافة المقترحات والبدائل الأخرى التي طرحتها مصر وأيدتها السودان، من أجل تطوير العملية التفاوضية لتمكين الدول والأطراف المشاركة في المفاوضات كمراقبين من الانخراط بنشاط في المباحثات والمشاركة في تسيير المفاوضات، وطرح حلول للقضايا الفنية والقانونية الخلافية.

  
أحب أن أذكر قارئي العزيز بمقال كتبته منذ أسابيع أوضحت فيه أن إثيوبيا تريد من مصر أن تضرب سد النهضة!، ذكرت فيه عن سبب انسحاب أثيوبيا من المرحلة الأخيرة من المفاوضات التي جرت في أمريكا برعاية الرئيس الأمريكي وقتها دونالد ترامب، وعدم توقيعها على الاتفاقية بعد أن كانت موافقة بالفعل عليها، أن السبب في ذلك يرجع إلى تلقيها مكالمة من إسرائيل تدفعها للتعنت، وأن ذلك التعنت هو الذي سيدفع مصر إلى ضرب سد النهضة..

وفي ذلك منافع جمة لإثيوبيا وطبعا لإسرائيل، ومن هذه المنافع أن السد الذي كان قد أقيم لتوليد الكهرباء وتصديرها لمصر والسودان وأوروبا لم يعد له جدوى من ذلك، حيث تمكنت مصر من تنمية قدراتها في مجال الكهرباء وصارت تصدرها للسودان، وإذا فكرت في التصدير لأوروبا فإن ذلك يعني شبكة طويلة للنقل تكلفتها ستكون أكبر من مكاسب أديس أبابا وأيضا سيكون ذلك عن طريق مصر.

والكارثة أنه حتى في حالة استخدام كهرباء سد النهضة داخل إثيوبيا نفسها فسيكون الأمر مكلفا جدًا، لأن إثيوبيا اعتمدت على إقامة السد مع حدودها مع السودان، بدلًا من إقامة سدود صغيرة ومتفرقة على طول نهر النيل، لتكون قريبة من التجمعات السكانية، وذلك يعود إلى اعتمادها على أن مهمة السد في تصدير الكهرباء فقط مع المكايدة السياسية لمصر.

كما لم يعد السد يهدد مصر بتدمير السد العالي بعد أن تمكنت مصر من إنشاء مفيضات تتحمل الكميات الضخمة الواردة من المياه وتحولها للصحراء، ومع تيقن إثيوبيا من عدم جدوى السد الاقتصادية، ومع قوة الدبلوماسية المصرية لم تجد إثيوبيا حلا سوى في الاستماع إلى إسرائيل التي نصحتها بالتعنت في توقيع الاتفاقية وقتها وإلى آخر اتفاقية في الكنغو، والتبجح في الردود مع مصر حتى تقدم مصر على خطوة ضرب السد..

ووقتها لن يكون من حق الدول الممولة للسد المطالبة بديون السد، كما سيقف الشعب الإثيوبي خلف رئيس الوزراء آبي أحمد بعد الانقسام، كما أن أعداء مصر سيجزلون العطاء لإثيوبيا من أجل الخروج من أزمتها المالية، ويستغلون ضرب مصر للسد عالميا لعل ذلك يؤدي إلى عقوبات كبرى على مصر من الدول الكبرى؛ مما قد يؤدي إلى مشكلات اقتصادية للشعب المصري، مع استغلال أن الدولة القوية التي هي مصر ضربت سدا لدولة ضعيفة دون أن يكون قد تحقق الضرر بالفعل على مصر، ودون أن تلجأ مصر للطرق القانونية في سبيل ذلك وأهمها اللجوء لمجلس الأمن الذي هو مختص بنزع فتيل أي أزمة، حتى أن أمريكا في ضربها للعراق لجأت أولا لمجلس الأمن وإن كان ذلك بصورة شكلية، كما لجأت السعودية كذلك للمجلس في ضربها للحوثيين باليمن.

وأرى الحل المنطقي في ذلك هو أن تظهر قوة مصر والسودان بوجود قاعدة عسكرية كبرى بالقرب من السد وفي حدود السودان، تكون مهمتها مراقبة السد ومنع الملء الثاني بالقوة لو لزم الأمر، بمعنى أن أثيوبيا لو بدأت في الملء الثاني تتدخل القوات المصرية السودانية وتضم السد للأراضي السودانية بالقوة..

ويكون ضم السد بعد أن تكون مصر والسودان قد لجأتا لـ مجلس الامن وفقا للقانون الدولي، والاستعانة بالدول داخل الإقليم وخارجه وتحذير كل الدول التي تستثمر في أثيوبيا أنها بذلك تعادي الشعب المصري والسوداني بما سيعيق مصالحها الاقتصادية في مصر، كما تمنع مصر أي سفينة تحمل بضائع لإثيوبيا من المرور من قناة السويس لأن أثيوبيا صارت دولة عدوا لمصر.

ويكون طلب مصر والسودان من مجلس الأمن إصدار قرار ملزم لإثيوبيا بوقف عملية بناء السد لحين التوصل لاتفاق ملزم وعادل بين الأطراف الثلاثة، فضلا عن وقف الملء الثاني الذي تحدثت عنه أديس أبابا. ويمكن لمجلس الأمن إلزام إثيوبيا بذلك، فخطوة اللجوء إلى مجلس الأمن بلغة ميثاق الأمم المتحدة يجب أن تندرج تحت الفصل السابع وليس السادس؛ لأن الفصل السادس تتمتع بـ"إلزامية أدبية"، مقارنة بتلك التي تصدر عن المجلس بناءً على الفصل السابع، ذات الطبيعة الإلزامية بما ذلك استخدام القوة.

ويمكن لمجلس الأمن أن يدعو أطراف النزاع إلى تسوية النزاع فيما بينهم بالطرق الدبلوماسية، إذا رأى ضرورة لذلك، حتى لو لم يتفق الأطراف على عرض الاتفاق على مجلس الأمن، ويحوز المجلس سلطة عامة في إجراء التحقيق من تلقاء نفسه أو بتشكيل لجنة تخضع لتوجيهاته في أي نزاع أو موقف يرى المجلس أنه بحاجة إلي ذلك.

إذا فالحكمة هنا هي المطلب في نزع فتيل الأزمة دون الاندفاع، مع تأمين عدم الضرر بوجود القاعدة العسكرية التي تتمكن من منع أثيوبيا من الملء الثاني، وهذه الحكمة هي التي استخدمها سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي اشترى بئر رومة وكانت ركية ليهودي يبيع للمسلمين ماءها، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه فِي دلائهم، وله بها مشرب فِي الجنة، فأتى عثمان لليهودي فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم.

فجعله للمسلمين، فَقَالَ لَهُ عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إن شئت جعلت على نصيبي قرنين، وإن شئت فلي يَوْم ولك يَوْم. قَالَ: بل لك يَوْم ولي يَوْم. فكان إذا كَان يَوْم عثمان استقى المسلمون مَا يكفيهم يومين. فلما رأى ذَلِكَ اليهودي قَالَ: أفسدت علي ركيتي، فاشتر النصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف درهم" .

فلم يلجأ الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - للقوة في انتزاع البئر حتى لا يقال انتزعها بالقوة رغم عدالة القضية وتحكم اليهودي في مياه شرب المسلمين، ولكنه لجأ للحل السلمي، وتمكن سيدنا عثمان من تنفيذ الحل بمكر وذكاء شديد مكنته من شراء البئر بأقل مال ممكن، وهو ما يجب أن يكون، حيث الآن قد تحول السد إلى بئر رومة يتحكم فيها اليهود الإسرائيليون مرة أخرى..

إذن يحتاج الأمر إلى ذكاء ومكر بأن ترفع مصر والسودان الأمر لمجلس الأمن لتفويت فرصة مظلومية أثيوبيا، خاصة وأن مصر أثبتت للعالم كله عدالة قضيتها ورفض أثيوبيا للجوء لمجلس الأمن والأمم المتحدة وأمريكا، وهنا سيحكم المجلس لصالح مصر التي لن تكون أغفلت القوة بجوار السد، فيتحقق المراد بالحكمة دون الحرب التي لا يكون اللجوء إليها سوى في نهاية المطاف كما يقال "آخر الدواء الكي". 
Advertisements
الجريدة الرسمية