رئيس التحرير
عصام كامل

عويس الإسخريوطي

نحلف اليمين بالعيش والملح.. ونطلق على الأكل الذي جمعنا على مائدة واحدة (عيش وملح).. نتقاسم "الرغيف" فيصبح للأمر قدسية واحترام ودلالة على أن من أكلت معه يُحرم عليك الغدر به أيًا كانت الأسباب!

ربما كان هذا التقديس لثقافة العيش والملح السبب وراء الذاكرة الشعبية التي قد تغفر أو تتجاهل بعض الجرائم في حين لا تستطيع النسيان إذا كان المجرم قد غدر بمن تقاسم معه الطعام.

بدأت ريا وسكينة وأدهم الشرقاوي جرائمهم في العام ذاته سنة 1919.. الأولى كان مسرح الجريمة في الإسكندرية والثانية لم تبتعد كثيرًا حيث دارت أحداثها بالبحيرة.. أما النهاية فقد جاءت في العام ذاته أيضًا حينما قتل "الشرقاوي" قبل إعدام الاختين "ريا وسكينة" بعدة أسابيع لتنتهي جرائمهم عام 1921 وقبل مائة عام بالظبط.. ورغم مرور السنين لا يزال يشار إلى "ريا وسكينة" باعتبارهما تجسيدًا ورمزًا للشر المطلق.. بينما تُخلد سيرة "الشرقاوي" باعتباره الثائر البطل!

الشرقاوى وريا وسكينة
السر في اختلاف رد الفعل الشعبي مع هذه الجرائم يكمن في "العيش والملح".. فالأختين قاموا بقتل صديقاتهن ممن تقاسمن معهن رغيف الخبز والفقر والمعاناة.. كانوا يدعون الضحايا إلى "العشاء الأخير" قبل أن يقتلونهن بدم بارد.. لم يلعن الناس "ريا وسكينة" بسبب جرائمهن فحسب إنما لأنها وُجهت للصديقات ممن تقاسموا معهن ظروف الحياة ومصاعبها.

أما "الشرقاوي" الذي حولته القصص والمواويل من قاطع للطريق وقاتل مأجور إلى ثائر ومتمرد على السلطة والاستعمار فقد جاء التعاطف معه حينما عُرف إنه قُتل بسبب خيانة صديقه "محمود أبو العلا" الذي أرشد عنه، وما كان "الشرقاوي" يستعد لتناول عشاءه الأخير حتى قتلوه نتيجة وشاية الصديق الذي غدر بالعيش والملح.. ليتحول الغضب من جرائم "الشرقاوي" إلى غضب أكبر من خيانة صديقه "أبو العلا".. استحق "الشرقاوي" مصيره بالقتل لكن شيئًا في نفوس الناس لم يغفر خطيئة الصديق الذي خان.

مرت مائة عام على مقتل "ريا وسكينة" و"أدهم الشرقاوي"، ولم يتسامح الناس مع غدر الأصدقاء وخيانتهم لثقافة "تقاسم الرغيف" حتى شاهدنا بأنفسنا خيانة أشد لن تتسامح معها الذاكرة الشعبية مهما مرت الأعوام خاصة أنها لم توجه من صديق خائن إلى صديقه المجرم الذي أرعب سكان القرى في البحيرة أو إلى قاطع طريق أو قاتل مأجور أو حتى حفنة من بنات الليل إنما وجهت الطعنة من صديق خائن إلى صديقه البطل النبيل الذي أدى واجبه تجاه وطنه بشرف وشجاعة!

خيانة
جاء غدر الصديق وخيانة العيش والملح هذه المرة من الصديق الخائن "محمد عويس" تجاه شهيد الواجب "محمد مبروك" الذي جسد بحياته بطولة حقيقية صنعتها الظروف ولم تصنعها أكاذيب المواويل الشعبية مثل "أدهم شرقاوي".. خيانة تجاه مدافع عن وطنه وليس قاطع للطريق استحق مصيره.. كانت الخيانة هذه المرة تجاه بطل، بينما الخائن كان واحدًا طوال مائة عام مهما اختلفت الاسماء.

امتلك "عويس" ندالة "أبو العلا"، وشر  الأختين "ريا وسكينة" لذلك سوف يُخلد في الذاكرة الشعبية باعتباره "الندل" الذي خان العيش والملح، وغدر بالصداقة، ونعاه بدموع مزيفة، ومشى بدم بارد في جنازه ضحيته.. سوف يتحول "عويس" مع مرور الزمن إلى رمز للشر المطلق يروي الناس لبعضهم حكايته في القصص الشعبية للتحذير من خيانة الأصدقاء، وتحكيه الأم لأبنائها للدلالة على الغدر.. سوف تحكي المواويل حكايات الخيانة التي تتشابه عبر الزمن..

من الثلاثين قطعة فضة التي استلمها "يهوذا الإسخريوطي" ليسلم السيد المسيح إلى الملايين التي حصل عليها "عويس" ليغدر يصديقه "مبروك".. من "حسن بن مرعي" الذي سلم صديقه "طومان باي" للعثمانيين إلى الصديق الخائن "علي يوسف" أو "خنفس باشا" الذي خان "عرابي" في التل الكبير.. تختلف الاسماء والخيانة واحدة عبر الزمن.
الجريدة الرسمية