رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات متبلة بعرق امرأة

اعرف امرأة لم تعجب يوما بأصداف البحر ولا الحصى الملون على الشاطئ، لكنها مغرمة بطبقة الملح المترسبة على الصخور بعد احتضانها الموج. هي تؤمن بأن الملح هو الحقيقة التي لا يمكن أن تضيع أبدا حتى وإن تفرق بين ذرات المياه لملايين السنينن فحتما سيجف الماء في لحظة ميلاد الشمس ويبقى الملح.. تقول إن الملح هو ما يتبقى من البشر، بل هو خلاصتهم التي تتبل أرواحهم بعد فناء الأجساد.. تذهب صديقتي إلى البحر في أيام السبت، لتجمع الملح وتنثره على المدن الميتة، فتستحيل مدنا حية من لحم ودم.. مدن تعد القهوة على الكانون وتخبز القمح في راحة يد الجدة وترقص بشعرها المنسدل على كتفها المرمري تحت ضوء القمر.


 سوق الكلام
في سوق الكلام رأيت فتاة تمشي وهي تحتضن حكاية بشغف العشاق، بينما الخجل الممزوج بالانبساط يداعب ملامح وجهها المليح. سألتها من «أين لك هذه الحكاية؟» فأشارت إلى دكان صغير يجلس داخله عجوز بوجه خال من أي تعبير.

ذهبت إليه سائلا عن صنعته، فقاطعتنا شابة طلبت منه أن يحيك لها حكاية تلائم هيئتها، فأجلسها أمامه، وأخذ يلفها بخيوط كلامه المغزول من ملامحها.. كلام محبوك بعناية يطابق قياسها دون غيرها من نساء الأرض، وحين انتهى، وضعت في يده ابتسامة ومضت.

قال العجوز وهو يضع ابتسامة المرأة في صندوق من الصدف: «أنا ترزي حكايات»، لا أبيع قصصي إلا للنساء، ممن لا يفضلون الحكايات الجاهزة.

داخل الصندوق، الذي لم يغلقه الرجل، لمحت الابتسامة تتحول إلى فراشة ملونة تشع بهاءً. لمح الرجل في عيني الكثير من الأسئلة، ولاحظ ذلك الفضول الذي يغطي وجهي، فقال دونما كلمة مني: «هذه صنعتي، ورثتها عن جد جد.. كلام في كلام أفصله على مقاس زبوناتي، لا أتذكر - بل أنا متأكد - أنني لم أحيك قصتين متشابهتين في حياتي، ليس لأني فقط ماهر في صنعتي، لكن أيضا لأن النساء قطع فريدة لا تتكرر».

أنهى العجوز كلامه، ومد يده لي بحكاية، وأخبرني أنه حاكها لتناسب قياس امرأة أحلامي، وأوصاني أن ألبسها لمن أعجب بهن من النساء، ومن تلائهما الحكاية تماما ستكون هي امرأتي المنشودة.

عزلة وسط الحشود
«وسط الحشود يمكنك ممارسة طقوس العزلة بكل حرية»، هكذا علمتني صديقتي التي تحترف الجلوس وحدها في المقاهي المطلة على البحر، تقرأ فنجانها الذي لم ترتشف منه شئا وتحتسي كتابا بأطراف أصابعها حين تمررها على الكلمات، إذ أنها تجيد التخفي كفراشة خضراء بين أوراق الشجر..

تجلس لساعات وساعات فلا يلحظها أحد، وحين ترحل يقف الجرسون أمام طاولتها الفارغة متأملا، محاولا اكتشاف ذلك الشيء الناقص في المشهد.. أمام واجهة المطعم القريب، تقف لترسم على البخار الذي يغطي الزجاج أول حرف من اسم الرجل، الذي اخترعته قبل عامين، ورحل في قصة حكتها امرأة أخرى..

في المحال، لا ترى البائع، تماما مثلما لا يراها هو، فتأخذ ما تحتاجه وتترك مكانه أشياء صنعتها بيديها مثل جورب من الصوف أو لوحة لبيت صغير بحديقة يلهو فيها طفل، وأحيانا تقايض ما أشترته بحكاية ألفتها في ليلة شتوية.. في الشوارع المزدحمة، تسير هي عائدة إلى بيتها، لكن أحدهم لا يلمس كتفه كتفها، حتى السيارات تعبر جسدها الشفاف دون أن تصطدم به..

على السفرة لا كرسي لها ولا طبق، وأمام التلفزيون كنبة لفردين ليست أحدها، حدودها غرفتها، التي هي رفيق (ملتزم بآداب العزلة) أكثر من كونها مكانا يستوعب وحدتها.

مدينة ترتدي ثوب امرأة
صديقتي مدينة
وجهها يلمع كشوارع العاصمة
قلبها يئن كحواري العشوائيات
مساحيق تخفي تشققات الجدران
أعمدة إنارة تبدد الدوائر السوداء حول عينيها
شعرها فروع أشجار عتيقة
سيقانها جسور تصل بين الضواحي
تلبس فستانا من أوراق البنكنوت
وحول عنقها مسبحة قدت حباتها من عظام المشردين
قدماها تنتعلان قاربي صيد
وعيناها تطلقان الرصاص على الغرباء
نهارا أنام في كفها
وليلا تبيت في حضني
لكن أحدنا لا يعرف الآخر.

جدار يقف وحيدا

في كل شارع جدار يقف وحيدا
لم يكن يوما جزءا من مبنى
هو رجل أو امرأة
ينتظر أحدهما الآخر
نصف يبحث عن نصف
وتحت كل جدار تجلس عجوز
تمشط شعرها الهش بعظام كفها وهي تصفر لحنا جنائزيا
بينما صبية الشوارع يرجمونها بالحجارة
قبل أن يأتي شيخ ليصرخ فيهم: ابتعدوا عن الست حياة
يفر الصبية
تصفر العجوز
ويبكي الجدار.
الجريدة الرسمية