رئيس التحرير
عصام كامل

بنك المعروف

خلال دراستي فى شعبة الصحافة والإعلام بجامعة الأزهر، صادفت على مر سنوات الدراسة الأربع، العديد من الأساتذة والقامات العلمية الرفيعة، الذين تركوا بصمات العلم والإنسانية فى وجدان كل طلابهم، إلى أن تخرجنا ولازلنا بعد 22 عاما من انتهاء الدراسة، نذكرهم بكل الخير والعرفان، ندعو لمن مرض أن يمن الله عليه بالشفاء، نتواصل معهم هاتفيا فى المناسبات المختلفة، وندعو بالرحمة لمن لقى وجه ربه، جزاء إحسانه ورفقه، فى غير إفساد أو تدليل أو انفلات.


أصحاب القلوب النبيلة كًثر، وكان منهم أستاذ عالم فى مادته، متفردا بالإمعان فى جبر خاطر طلابه ومحبتهم المتبادلة له، وهو ما ترك في جميعهم، ذكريات طيبة للأستاذ الجامعى الخلوق، العالم المتمكن.

كان الدكتور محمد طه أستاذا لمادة المقال، يأتى دائما إلى موعد المحاضرة منضبطا بلا أدنى تأخير، مستقلا سيارته الفارهة، مرتديا حلته الفاخرة، موزعا البسمات فى وجوه عمال الجامعة والكلية، قبل أن يطلقها فى وجه زملائه.

مشاركة الطلاب  
يدخل الدكتور محمد طه موعد المحاضرة فى الساعة الثانية ظهرا، يرحب بالطلاب واحدا تلو الآخر، يسألهم عن أحوالهم المعيشية، وقد كان الغالبية من أبناء المحافظات البعيدة، كونه القسم الوحيد على مستوى الجامعة، يعتذر لهم عن موعد المحاضرة المتأخر، وقد صادف وقت طعام الغذاء، ثم ينادى على عم عبد النبي، عامل الكلية، مخبرا إياه فى لطف بالغ :"ياعم عبد النبي بعد إذنك شوف الأساتذة يحبوا يتغدوا ايه، واعمل حسابك معانا وأحضر لهم ما يريدون كباب، كفتة، أى شيء يشتهون".

يأتي عبد النبي بالطعام ، يتناول الجميع فى جلسة استراحة بسيطة خلال المحاضرة، ويتناول الدكتور محمد طه الطعام مشاركا طلابه، أو يخرج من قاعة المحاضرة معتذرا إذا كان تناوله قبل قدومه، حتى يتسنى للطلاب عدم الوقوع فى دائرة الحرج منه.

وبعد الفراغ من تناول الطعام، ينادي الدكتور محمد طه، عم عبد النبي مرة أخرى، مطالبا إياه بإحضار المشروبات الساخنة والباردة للطلاب، فيعتذر بعضنا بلطف محرجا، فيرد بأنه مثل أخيهم الأكبر ولا حرج فى هذا لأنه يدرك حجم مشقتهم ويحب مشاركتهم طعامهم وشرابهم ولا يحب أن يحتسي قهوته وسيجارته منفردا.

بعد الفراغ من تناول الطعام والشراب، تبدأ المحاضرة التي كنا ننهل فيها من علمه الغزير بأسلوب سلس بسيط لين، نبتغى فيه التعلم بصدق لا مجرد النجاح فى المادة وحسب.

تنتهى المحاضرة التي كانت تستمر إلى الخامسة مساء أحيانا فى وقت يمر كأنه لحظات، بلا ملل أو ضجر، وبمحبة بالغة من الحضور لأستاذهم، ثم يسأل الدكتور محمد طلابه :"ما هو إجمالي قيمة الكتب الجامعية فى المواد المختلفة لكم هذا العام؟".

فيجيبه الطلاب، بإجمالي المبلغ، فيطلب من أحدنا إعداد حصر بعدد طلاب الدفعة كافة، وتكلفة كل منهم، ثم نفاجئ فى المحاضرة التالية باحضاره، مبلغا كبيرا من المال قيمة الكتب الدراسية فى المواد كلها، موزعا إياه علينا بالتساوى، فضلا عن قيامه مع كل شتاء بتوزيع مبالغ مالية وبطاطين على عمال الكلية، بل والكليات المجاورة.

سافرنا رفقته إلى رحلة للأقصر وأسوان، وكان مقررا نزول الطلاب فى أحد الفنادق، فيما ينزل أعضاء هيئة التدريس فى آخر، وحينما شكى بعض الطلاب من تردى حالة بعض غرف فندقهم، أبي الدكتور محمد طه أن يبيت ليلته مرتاحا، بينما أحد أبنائه يشعر بالضيق، فقرر من فوره البحث عن فندق آخر على نفقته الخاصة يكون مقرا للجميع أعضاء هيئة التدريس والطلاب، مخبرا زملاءه بأن الطلاب قادمون للاستمتاع لا للعقاب، قائلا: "المكان اللى هيبات أولادى فيه هبات فيه مش هسيبهم".

روح المحبة
انتهى الجميع من التسكين فى غرف الفندق الجديد، وأصر الدكتور محمد طه أن يمر على الطلاب فى غرفهم بجلبابه الفخم ومسبحته البيضاء، مطمئنا لعدم وجود معوقات أو صعوبات تمنع استمتاعهم بالرحلة، كما أخبر من يرغب فى شراء محمصات وأعشاب أسوان الفريدة، ونفذ ماله، أن يخبره فورا وسيعطيه ما يرغب، قائلا :"لا يليق بكم أن تعودوا لأسركم بأيديكم خاوية". 

كتب زملاء كرام عن أستاذنا أنه يقيم حاليا مائدة طعام يومية فى أحد أحياء القاهرة، تقدم وجبات الإفطار والغذاء والعشاء، على مدار العام، مفتوحة على مصراعيها من الثامنة صباحا إلى العاشرة مساء، لأي عابر سبيل، مجانا، ولا تقبل المائدة أى تبرعات مادية أو عينية من أى جهة، وعلى هذا المنوال تستمر منذ عشرين عاما أو أكثر تقدم أفخر أصناف الطعام لعابري السبيل مثل المشويات والأسماك.

استدعيت فورا إلى الذاكرة محبة الدكتور محمد طه، لطلابه ومحبتهم له، وأنا أتابع واقعة غريبة شهدتها مواقع التواصل الاجتماعى، تعليقا على تهنئة وضعتها إحدى الكليات على صفحتها على"فيس بوك" عن ترقية أحد أساتذتها، وكان مفاجئا كم التعبيرات الغاضبة التي تجاوزت مائتي ألف تعبير، فضلا عن التعليقات والدعوات السلبية على الأستاذ، جراء ما قالوا إنه سببه من آلام معنوية وإيذاء نفسي لطلابه.

لم يشتر الدكتور محمد طه حب طلابه بالمال، لكنه استثمر فى بنك المعروف، استشعر تلاميذه رفقه بأحوالهم وأحوال أسرهم، وهو بجانبهم يعلمهم، ويتلمس همومهم، استشعروا لينا وحبا، بلا استخدام عصا النجاح والرسوب الشهيرة لدى بعض الأساتذة الذين يرقون أنفسهم إلى مرتبة "نصف إله"، بل كان هدفه تقديم العلم اليسير، وبث روح الخير، وإشاعة أجواء الإحسان والرحمة التى يأمرنا بها الدين الحنيف، خاصة مع من هم أضعف، بلا منّ أو أذى أو جرح أو أيلام.

شكرا لك أنك أعطيتنا من علمك، وشاركتنا من فضل ربك، وهمسة فى أذن كل أستاذ يستخدم سلطته فى التنكيل بطلابه وتدميرهم نفسيا وعلميا، وتعذيب أسرهم، كن منصفا بلا إخلال بواجبات وضوابط العملية التعليمية، فقليل من روح المحبة، تجلب لك دعوات الخير، وتجنبك غليل التشفي.
الجريدة الرسمية