رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

السيرة الذاتية لفم لا يجيد التقبيل

في طفولتي ضبطتني أمي قُبيل أن أطبع قبلة ساذجة على فم ابنة الجيران، فأبلغت أبي الذي لقنني درسا مازالت حروفه مطبوعة على جلدي، ما جعل ذراعي يبدو كصباع سجق مشوي على «الجريل» . في المدرسة الابتدائية، وضعت هناء يدها حاجزا بين شفتي وشفتيها، وقالت إنها تخشى إن قبلتها يمتلئ بطنها بجنين يجلب لأهلها العار، لكنني وضحت لهذه الطفلة «العبيطة» أن الحمل لا يحدث إلا إذ كان بيننا حضنا طويلا..


في المرحلة الثانوية، اقتربت هاجر بأنفها من فمي، وقالت إن رائحة السجائر تزعجها، ونصحتني بأن أغسل أسناني بالمعجون والفرشاة أولا، قبل أن تسمح لي بقبلة من شفتيها الممتلئتين، ثم رحلت بنت «اللذين» في برود، وتركتني كبراد شاي يتثاءب بخار الماء بينما بطنه يغلي.

في الجامعة، كنت قاب شفتين أو أدنى من اقتناص أول قبلة في تاريخي العاطفي، غير أن إيمان زميلتي سألتني بغتة: «ومتى سنتزوج؟!»، فانسحبت في صمت، إذ لم يكن لي أن أخبرها بأن الخمسة جنيهات التي أحصل عليها كمصروف يومي لن تمنحني القدرة على «فتح» بيت.

بعد التخرج، اصطحبني صديق إلى بيت يبيع الحب في زجاجات عطور مهشمة، ودفعت 30 جنيها نظير الانفراد بفتاة متسرعة، قالت وهي تعطيني ظهرها بينما تطالع وجهها في المرآة: «عندي حرارة في بُقي.. معلش بقى»، فلملمت خيبة أملي وخرجت بعد أن رفضت سيدة البيت أن تعطيني ولو عشرة جنيهات مما دفعت من باب اقتسام الخسارة فيما بيننا..

وهكذا استمرت عذرية هذا الفم، الذي لا يُعرف على وجه التحديد إذا كان يجيد التقبيل أم لا.. منذ عقود قرأت عن أسطورة تقول إن القبلات التي لم نطبعها على شفاه الفتيات تظل تطاردنا في اليقظة والحلم فتحيل حياتنا إلى كابوس ممتد كشارع السودان، وإنه لا سبيل للخلاص من هذه اللعنة إلا بتقبيل ريشة من أنثى طائر لا تبيض.

قبلة تحت القصف

تحكي سارة لبناتها عن قبلة تلخص علاقتها بوالدهن الراحل، فتقول إنها تلك التي طبعها على شفتيها، بينما كان اليهود يقصفون المدينة، وتسرد تقاصيل القصة التي انتهت بمقتل البطل.. ليلة حزينة، خضبت فيها دماء طاهر ذراعي سارة، إذ وشى به أحد الخونة، والذي دل اليهود، على بيته، وهو الرجل الذي قاد المقاومة ضد المحتل لأكثر من خمس سنوات.

عن القبلة تقول سارة: «في هذه الليلة كان ثلاثتكن في حضني، بينما الضربات تتوالى على الحي، وخصوصا بيتنا هذا الذي أعدت بناءه بعد هروب المحتل.. كانت كل ذرة في جسدي ترتعد، إلى أن جاء هو، فألقى بجسده علينا جميعا، وكأنه مظلة تحمينا من وهج الشمس الحارقة..

عندها شعرت بطمأنينة تسري في عروقي، رغم الشظايا ورائحة البارود، لكنني لم ألحظ خيط الدماء النازل من أعلى جبهته مارا بعينه ثم خده الأيسر، وقتها كان يحتضر في سلام، وفي خضم المعمعة، احتضن بشفتيه شفتاي.. قبلني برفق، باسما، وبعيون ملؤها الرضا.. ثم همس (أحبك) وأرخى سدول عينيه وغام خلف السُحب».

تؤمن سارة أن القبلة لا تكون صادقة، إلا في أوقات الحرب.. الموت.. الرحيل.. الكوارث.. ففي مثل هذه الأوقات، لا يولد نفاق ولا كذب.. مثل هذه اللحظات عهد إلهي لا يمكن نقضه.
Advertisements
الجريدة الرسمية