رئيس التحرير
عصام كامل

قراءة فى أزمة كورونا الاقتصادية (3)

أحدثت أزمة كورونا تداعيات سلبية خطيرة وعديدة على اقتصاديات الدول المختلفة وخاصة ما نطلق عليه الاقتصادات متعدية التأثير، مما كان له أعمق تأثير على أوسع نطاق على الاقتصاد العالمى ككل والقطاعات الاقتصادية الرئيسية فى داخل الدول.

 

والحقيقة إن هذه التأثيرات تنبىء بحدوث تحولات هيكلية وبنائية فى النظم المالية والاقتصادية الداخلية والعالمية وخاصة إذا تراكمت تداعيات المرض لفترة طويلة نسبيا. ويمكن فهم هذه التداعيات فى ضوء الطبيعة المعقدة والمركبة للأزمة، وكذلك فى ضوء محددات التأثير والتأثرفى للأزمة.

 

أدت الأزمة إلى إحداث سلسلة من التأثيرات العميقة على مالية واقتصاديات الدول التى إبتليت بها. إلا أنه يجدر بنا قبل عرض أهم التأثيرات أن نبرز مايلى:

 

 

1- إنه يصعب تناول الأثار الاقتصادية والاجتماعية بالتحليل الشامل نظرا لأن الازمة مازالت مستمرة ومن ثم فإن الكثير من الارقام التى توجد فى هذا المقال هى عرضة للتعديل مع مرور الوقت.

 

 

2- إن طبيعة التأثيرات تكتسب خصائص وأبعاد جديدة كلما طالت مدة الأزمة وبالتالى تصبح أكثر صعوبة وتعقيدا بما يؤدى  إلى جعل عودة الانشطة التى توقفت كليا أو جزئيا ليس فقط مكلفا بل قد لايتم استعادتها بنفس الفعالية التى كانت عليها خلال فترة قصيرة.

 

اقرأ ايضا: الاقتصاد الصيني يسجل انكماشا تاريخيا

 

3-إن تأثير الأزمة يختلف من دولة لدولة أخرى ومن قطاع اقتصادى لقطاع أخر داخل الدولة الواحدة، بل انه يختلف من فئة اجتماعية لفئة اخرى حسب التركيبة الديموجرافية..الخ.

 

4- إن هناك عامل مشترك بين كافة التغيرات فى كل الدول تقريبا وهو الاتجاه الهبوطى لكل المتغيرات الاقتصادية الكلية ذات الصلة.

 

5- إنه يوجد صراع دقيق بين إتخاذ قرار لتجنب المرض وهو مايتطلب الاستمرار فى اجراءات الاغلاق والتباعد الاجتماعى وفى المقابل إتخاذ قرار بالعودة الى العمل وهو ما قد يكون على حساب انتشار المرض مما قد تكون له نتائج مؤلمة انسانيا واجتماعيا. وأيا كان الأمر فان القرار الذى يتم اتخاذه سيترك أثره بالطبع على التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية الآنية والمستقبلية.

 

 

ونعرض هنا أهم التأثيرات السلبية:

 

- الخسائر البشرية الهائلة التى منيت بها دول عديدة والتى لاتقدر بثمن. رغم ان هذه الخسائر ليست مالية أو اقتصادية فى طبيعتها إلا إن الذعر والهلع والرغبة فى وقف انتشار المرض وتجنبه او الحد منه يقف وراء اتخاذ العديد من الاجراءات فى دول كثيرة وعلى نحو متزامن رتب العديد من الخسائر الاقتصادية والمالية.

 

اقرأ ايضا: بنك التنمية الآسيوي: خسارة 10% من الناتج الاقتصادي العالمي بسبب كورونا

 

- المبلغ النقدية الضخمة التى خصصت للانفاق بشكل مباشر لمواجهة انتشارالفيروس مثل شراء الاجهزة الطبية، تجهيز مستشفيات لم تكن مؤهلة للتعامل مع المرض وخاصة مستشفيات العزل..الخ فى بدايات الأزمة. والأن توجه النفقات فى معظمها لإجراء الإبحاث للتوصل لدواء للعلاج أو لقاح للوقاية من المرض. يحدث كل ذلك فى ظل الشكوك المتزايدة بامكانية عودة الفيروس مرة أخرى. وتزداد المخاوف من تمكنه بقوة من الدول الافريقية وبقائه فيها فترة طويلة، ومن ثم تضطر هذه الدول لتخصيص مبالغ ضخمة للمواجهة ولتنشيط القطاع الصحى غير الموجود. وهنا ستجد الدول المتقدمة والغنية نفسها ملزمة أن تقدم مبالغ كبيرة انسانيا واقتصاديا خشية أن يعاودها الفيروس من إفريقيا.

 

 

- المبالغ المالية الضخمة التى خصصتها الدول منفردة أو بالإتفاق مع غيرها من خلال تنظيمات دولية أو اقليمية لمواجهة ما ترتب من تأثيرات اقتصادية ضارة ولدرء حدوث تأثيرات أخرى. وسيكون لهذه الاجراءات اثار خطيرة على المالية العامة مستقبلا.

 

 

- الخسائر الناتجة عن توقف الانشطة الانتاجية والخدمية. اذ شهد أكبر اقتصادان فى العالم وهما الاقتصاد الصينى والامريكى (17% و23%) من الناتج المحلى العالمى على التوالى، هبوطا حادا وعلى نحو غير مسبو ق الاول منذ عشرات السنين ومنذ 2009 بالنسبة للثانى. هذان الاقتصادان اللذان يمثلان اكبر انتاج واكبر صادرات من سلع نهائية ووسيطة ويمثلان اكبر سوقين لمنتجات الدول الاخرى وبالتالى يتجاوز تأثير هبوطهما حدودهما ليجرا معهما بقية الاقتصادات العالمية بسبب اتساع وعمق الشبكة العنقودية الاقتصادية التى تربط بين الاقتصادات الصناعية الكبرى فى العالم .

 

 

الخسائر المتمثلة فى الفرص الضائعة او ما يعرف اقتصاديا بنفقة الفرصة البديلة والمتمثلة فى المجالات الاخرى التى كان يمكن ان توجه اليها المبالغ الطائلة (تريليونات ) على نحو اكثر نفعا و فائدة.

 

- الخسائر المتمثلة فيما ترتب على وقف انشطة الاستيراد والتصدير للسلع كافة مما ادى ان تتكبد دول كثيرة خسائر فادحة خاصة بسبب تدهور اسعار صادراتها من المواد الاولية للهبوط الشديد فى الطلب عليها ولعل ما اصاب سعر البترول خير شاهد على ذلك.

 

اقرأ ايضا: الإياتا: ١٧,٩ مليار دولار انخفاضا في الاقتصاد السعودي لتوقف الطيران

 

- الخسائر المتمثلة فى انخفاض أعداد العمالة الوافدة فى مختلف الاقتصادات وفقدان الكثيرين لوظائفهم وعودتهم الى بلدانهم . كما تم تخفيض الاجور بالنسبة لمن بقى على رأس العمل الى حوالى النصف . ادى كل ذلك الى انخفاض التحويلات بنسبة 20% كمتوسط عالمى وان كانت تزيد عن ذلك بكثير فى بعض الدول بسبب الاغلاق الواسع النطاق للانشطة الاقتصادية وخاصة فى مجال الخدمات . ويؤدى انخفاض التحويلات الى احداث مشاكل تمويلية واقتصادية خطيرة بالنسبة لدول عديدة ..

 

- ان قطاع النقل العالمى اصيب بخسائر جسيمة سواء اكان نقلا جويا او بريا اوبحريا. وترجع هذه الاضرار الى اغلاق الحدود وفرض القيود على السفر داخليا ودوليا مما ادى الى تراجع شديد فى عدد الرحلات الجوية ويتوقع ان يبلغ ب90% و98% حسب الدول  مما هدد بعض الشركات بالافلاس واضطرت الحكومات للتدخل وتقديم دعم لشركاتها لانتشالها.

 

- شهدت البورصات العالمية تدهور شديد فى يوم واحد حيث شهدت اسهم بعض الشركات انخفاضا فى يوم واحد بأكثر من 80% . وشهدت السوق الالمانية هبوطا 33% , البريطانية 37% والامريكية 30%.

 

- خسائر السياحة. يعد قطاع  السياحة من اكثر القطاعات التى عانت وتعانى من خسائر جسيمة بسبب فيروس كورونا وهو مايسبب اضرارا بالغة للاقتصاد القومى خاصة فى الاقتصادات النامية منها حيث تمثل عائدات السياحة مكونا رئيسيا فى الناتج المحلى الاجمالى 10% بصفة عامةومثلت فى مصر 15% فى 2018/2019. كما ان هذا القطاع يستوعب عدد كبير من العمالة المباشرة ويخلق فرص عمل اضعاف مضاعفة بشكل غير مباشر. ومما يزيد الامر سوءا انه اذا ابتليت السياحة بمشكلة فانها تأخذ وقتا اطول من اى نشاط اخر لكى تتعافى مرة اخرى.

 

اقرأ ايضا: "ستاندرد آند بورز": الاقتصاد العالمي يسجل انكماشا بـ2.3% العام الجاري

 

- ولعل أكبر وأخطر الخسائر هى البطالة أى الهدر البشرى وهو أسوأ أنواع الهدر نتيجة الاغلاق الكامل أو الجزئى وبسبب توقف الأنشطة الترفيهية والسياحة وتقييد النقل بكل انواعه..الخ، وهو ما يترجم كذلك فى صورة إنخفاض الدخول والطلب وإضعاف الحافز للاستثمار من ناحية أخرى، وما قد ينشأ عنها من تأثير سلبى على مستوى المهارات خاصة اذا طالت مدة التوقف من ناحية ثالثة، ومن ناحية رابعة وجود نسبة كبيرة من العمالة اليومية وغير المنتظمة والتى تعانى اكثر من غيرها.. وتزداد المعاناة والخسائر مع طول فترة التوقف.

 

 

- الخسائر المتعلقة بتدهور معدلات الاستثمار الاجنبى المباشر وتقدر الانكتاد إنه قد يهبط ب 30% - 40% (26/ 3/ 2020) . ونزعم إن استراتيجية الشركات دولية النشاط التى عكفت على الاستثمار فى الخارج بدافع التكامل الرأسى (vertical integration ) فى دول تتسم بكبر حجم السوق والرخص النسبى فى تكلفة العمالة مع ارتفاع مستوى مهارتها ولكى تتخذ منها منصة للانطلاق نحو اسواق الدول الاخرى بما فيها الدولة الام، وتقليل درجة المخاطرة تحتاج لاعادة النظر فيها خاصة بالنسبة للسلع الضرورية التى تشبع الحاجات الأساسية للانسان. سيمثل هذا الموضوع محور المقال القادم إن شاء الله تعالى .

 

 

لعل المرء يتساءل امام هذا الكم الرهيب من الخسائر البشرية والمالية والاقتصاديةوتصدع العلاقات بين الكثير من الدول، هل من المعقول والمقبول ان تظل قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية فى ايدى مجلس ادارة الاقتصاد العالمى (مج ال7)او حتى مج ال20)فقط؟.

 

 

هل ستظل المكاسب التجارية ومنافسة قطع الرقبة بين الاقتصادات الرئيسة فى العالم مستمرة أم قد تحل محلها المنافسة المحمودة حتى وإن تم جنى الارباح من ورائها؟. هل ستظل مسألة من يقود العالم حاكمة وبالتالى يتم تغيير قواعد اللعبة مهما كان الثمن ليظل القائد محتفظا بمكانه ومكانته مهما كانت النتائج، كما حدث من تغييرات حتى وصل العالم إلى العولمة وانشاء منظمة التجارة العالمية

 

 

أم قد نشهد تغيرات وتداخلات فى العلاقات بين الشرق والغرب وتفاهمات افضل؟ نرجو أن تكون القوى الفاعلة على مستوى العالم قد استوعبت الدروس المستخلصة على أرض الواقع من التجربة المريرة انسانيا واقتصاديا .

 

الجريدة الرسمية