رئيس التحرير
عصام كامل

إيما خليل تكتب.. بين خماسية "سارة كين" ورباط الحذاء

إيما خليل
إيما خليل

عن ليالي البؤساء الحسية ولحظات سقطات النفس عن المتع ذات السقف المفتوح الممتزجة بالعذاب وفداحة شهوة الإلتهام عن الظلم السُفلي الأُسري والحياة العموديةالتي تقودها أقدامٌ فوق رؤوس أقدامها فوق رؤوس.. عنهم وفيهم ومنهم قد ينبع الفن أحياناً معبراً عن زفرة الأنين الذي تكبده صاحبه.

فتاة إنجليزية ترعرعت في عائلة متشددة دينياً، كانت تمتلك خيالاً جامحاً يصل إلى حد المرض صنع منها كاتبة أصيلة اليأس، كاتبة دوماً كانت تسعى في صنعة خشنة الأسلوب لجعل المسرح قالباً لصراخات صراعها الخاص جداً دون توقف.. كانت حالة التجلي في إتخاذ المنحى الأكثر قسوة وقبحاً من الحياة لديها جرساً مُربكاً لتشوه ما حدث في نفس صاحبته..

بدأت "سارة كين" مسيرة قصيرة الأجل في كتابة المسرح في عمر الثالثة والعشرين،ثم تدرجت بسلسال من خمس مسرحيات كانت أقرب إلى قالب طويل تلقي به أسفل وسادة المتلقي.

فكل مسرحية كانت وجبة حارقة يصعب على الجمهور ابتلاعها أو هضمها، خاصة أن هذا النوع من الكتابات قد لا يجد انتشارا سهلاً وسريعاً، بل مزعج تمامًا ومشاهدته ليست أفضل ما يقدِّمه المرء لنفسه..

الإكتئاب،الوحدة، القتل، الجنس والحب أمور لم يكن تناولها غريباً علي المسرح البريطاني إلا أن "كين" كانت كثيرة الجدل، وتتطرق لما يعتبره البعض محرماً، حي وصفها البعض بأنها تجاوزت الحدود، وأثارت الإشمئزاز لدي كثيرين لجرأة وحساسية ماتتناوله علي المسرح..

مسرح "كين".. الموت ثم الموت ثم الموت..

"مدمرون"..

في مسرحيتها الأولي "مدمرون" اختزلت العالم داخل غرفة فندق، واستطاعت تجسيد تحولات إنسانية تحتاج لأعواماً في يومين فقط، عن طريق شخصيتين محوريتين هما "إيان" و "كايت"، إيان صحفي أربعيني ذا ميول إنتحارية، عنصري يرى المرأة أداةً أو مجرد وسيلة للتسلية الجنسية، ورفيقته "كايت" صاحبة العقد الثاني نموذجاًللمرأة الضعيفة التي تدرك جيدًا مدى الأذى الذي يوقعه الرجل عليها، بل وتعترف به بكل صراحة، ولكنها مرتبطة به ارتباط ابن بأمه..

تقلبات مزاجية حادة طوال المسرحية بين القوة والضعف والحب والكراهية، وشخصيات مكتئبة ومشرفة على الموت دائمًا، وأحداث تتسم بطابع أكثر سوداوية وقتامة، فإيان الذي يدَّعي القوة وعدم الخوف من الموت لا يتمالك نفسه حين تحاول كايت قتله، والتي تتحول في النهاية إلى جثة دون مشاعر.

بين تفاصيل المسرحية تتناول "كين" قضية الحرب ومدى جدواها وتأثيرها علي شخصية الجندي وتحوله إلى آلة لا تفكر إلا في القتل وممارسة الجنس،كانالموت هنافكرة تم تقديمهابالتدريج، فالموت دائماً حاضراً في مسرحها كطقس عام،أوكبطلًا أساسيًّا في العمل.

«تطهير» (Cleansed)

من أكثر مسرحيات "كين" قسوة وحدة، كل شئ في تلك المسرحية كان بارداً وميتاً، حتي مشاعر المحبين ميتة ، فالحب هنا إما حباً يلفظ آخر أنفاسه، أو حباً من أجل الجنس فقط في قالب تسليعي يفقده أي معني، فكل شئ وجميع الأشخاص كان يصاحبهم رائحة الموت.

تدور الأحداث داخل مدرسة مهجورة، زعيم المدرسة هو "تينكر" والذي يشرف على كل شيء بينما باقي الطلاب كانوا مثل خدم مُسخرين لديه، علاقة «تينكر» بباقي شخوص المسرحية أشبه بعلاقة إله مع عباده، فهو يأمر وينهي ويتحكم في كل شئ.. بطلة المسرحية هي "غريس" والتي ترتدي دائماً ملابس أشبه بملابس الرجال وتقص شعرها مثلهم، وهذا أمراً كانت تحبه "كين".. وبالرغم من حب "تينكر" ل "غريس" فإنه يبحث عنها في عاهرة لا يحبها، ويحاول صنع "غريس" جديدة حتي يُفقدها هويتها تماماً، وبالرغم أيضاً من الحب بين "كارل" و"رود" إلا انه حب يوضع في إطار من الإنتهازية والتعذيب فكل منهما يعذب الآخر علي مدار أحداث المسرحية. المسرحية مليئة بالكثير من الصور القاسية والدموية من قتل وعذاب وشنق، وهي في حقيقة الأمر تمثل وجهة نظر "كين" عن الحياة والحب فهما وجهان لعملة واحدة من التعذيب حتي الموت. وتحاول "كين" في تلك المسرحية التطرق لعرض أفكارها عن الدين والإله وكيف تخلت عن كل هذا في حالة من التطهر وهو سبب تسمية المسرحية بهذا الإسم.

"كين" بين لعنة الخيال وقبح الواقع ...

هل كل هذا العنف المُغلف بإحساس العدم يجري حقاً أم أنه نتاج تجربة ذاتية تخص الكاتب؟ ولماذا كل هذه الفوضي والسردية المتقطعة المحملة بمشاهد فجة واستفزازيةكانت تثير حفيظة الجميع؟ ما كانت تفعله "كين" كثيرا دون قصد ما هو إلا لعنة قد تصيب الكاتب أحياناً.. لعنة الخيال عندما يتحول إلي شطط يلاحق صاحبه، ويختلط بالواقع في صورة نزاع داخلي يحترق معظم الوقت، فيمتزج العناد بالنهم لإثبات صدق ما يعيشه المؤلف في وجه الجميع حتي وان إضطر أحياناً للصدام وإثارة الدهشة. كانت أبرز صور الصراع لدي "كين" هو شعور الذنب وجلد الذات والذي كانت تصفح عنه بصور مختلفة منها رفض الإختلاف النوعي أو الجنسي، فكانت تعبر عن نفسها ب "himself او herself" او “hermself” الذي يجمع بين الكلمتين، وكانت أبهي صور هذا الرفض تظهر بقوة في حالةالتماهي اللانهائية مع أخيها، فقد كانت تقول في جميع مسرحياتها "ارغب أن أكون نفسي وأخي في آن معاً". "كين" كانت أوضح مثال لطابع التدميرالذاتي الذي تتسم به العدمية عند النساء، فتعبيرها عن البُغض والكراهية والعنف والحاجة إلي التدمير كان مطلقاً، لذا كان المخرج الوحيد لها هو الإنتحار..

"الوصية الأخيرة".. «ذهان 4:48»

"إنني أكتب للموتى ، لأولئك الذين لم يولدوا بعد.. لا شيء يمكن أن يطأ غضبي، ولا شيء يجعلني أستعيد إيماني.. ليس هذا عالم أرغب بالعيش فيه ، إنني متعبة من الحياة وروحي تريد أن تموت.."عند الساعة 4:48 عندما يزورني الاكتئاب سأشنق نفسي.. لا يوجد دواء ع الأرض يستطيع جعل الحياة ذات معنى.. بعد 4:48 صباحاً سأتوقف عن الكلام" مشهد تراجيدي كئيب علي ورق داخل نص مسرحي ولكنه فحقيقة الأمر كانصرخة تعلن عن رحيل صاحبها. رسالة وداع تسطيع سماع أنينها بين الحروف، وصية مبعثرة يُقطع نحيبها الدواخل. "ذهان" آخر مسرحيات "كين" والتي أعلنت فيهاصراحةً عن رغبتها في الانتحار، دون استخدام رمزيات أو إستعارات. بعد تلك المسرحية تم احتجاز " كين" في أحد المصحات العقلية بعد محاولة انتحار فاشلة بتعاطي جرعات زائدة من الأدوية،ثم تلاها محاولة انتحار أخري توفت خلالها شنقاً برباط حذائها في عمر الثامنة والعشرين. "ليست " سارة كين"  هي الأخيرة لكنها كانت من أكثرهم جرأة فقد ادركتأن الحياة في قسوة أن لا يشكِّل موتك شيئًا للعالَم سوى وجبة مجَّانية تخصُّك، وأحياناً قد ينتهز أحدهم الفرصة ليطالب بها.. وسيظل هناك دوماً شخص جديد تهزمه الحياة بشكل أو بآخر يُحكي عنه، فعندما يتعلق الأمر بالهزيمةكلنا حقًّا نصبح أبطالًا،فالخسارة هي الحِرفة الوحيدة التي يجيدها الجميع.."

Advertisements
الجريدة الرسمية