رئيس التحرير
عصام كامل

محمد محروس يكتب: قتل بلا جريمة

محمد محروس
محمد محروس

إذا كان القتل دائما يعد جريمة فإن بعض حالات القتل لا تجرَّم  ولا يعاقب عليها القانونُ. 

تبدأ قصتنا حيث ولد ذلك الطفل.. مفعما بالحياة ومغمورا بالحب والحنان.. مدفوعا بالأمل في غد تملؤه السعادة.

وُلد في أسرة بسيطة.. وقبل أن يستوعب معالم تلك الأسرة ضرب القدر لهم موعدا مع تغيير لم يكن في الحسبان.. فقدت الأسرة عمودها ورحل الأب بعد معاناة مع المرض. 

رحل قبل أن يشبع ذلك الطفل من حنانه وعطفه.. رحل قبل أن يشتد عود ذلك الطفل.. وقبل أن يمنحه من حنانه وخبرته ما يجعله قادرا على مواجهة طوفان الحياة. 

مرت الأيام والأعوام.. وكان ذلك الطفل غير كل الأطفال.. لم يكن يبحث عن لعبة تشغل وقته بل كان شغله الشاغل هو البحث عن أب فقده في بداية الرحلة.. وكان يهيم وسط البشر متخبطا هنا وهناك ينظر حوله علَّه يجد أباه وسط هذا الزحام..

ولكن لم تكن الدنيا أبدا بهذا العطف؛ فقد مرت الأعوام والأعوام وكبر ذلك الطفل وأصبح رجلا.. ولكنه مازال هذا الطفل الذي يبحث عن أبيه في عيون كل من حوله.. هو كان مدركا بكل تأكيد أنه لن يجده.. ولكن كان يبحث عن حنان أبيه وعطفه.. أراد أن يحتويه أحد ما.. أراد من يوجهه ويرشده في رحلته التي بدأها وحيدا بمفرده. 

لم يكن هذا الطفل ساخطا أبدا على إرادة القدر.. ولم يكن أبدا مستمتعا بدور الضحية الذي فُرض عليه.. ذلك أن هناك مئات الألاف الذين يعيشون نفس ظروفه ولكنه كان مختلفا.. لم يستطع مثل الجميع أن يطوي هذه الصفحة ويمضي للأمام.. بل كانت دائما تحركه عاطفته فكان ذلك الثقب الأسود الذي خَّلفه رحيل والده هو محركه الأساسي.. وكلما اصطدم بصعوبات الحياة وقسوتها زاد هذا الثقب اتساعا وقوة.. وزادت حاجته لأن يجد ضالته ويرتاح من هذا العبء. 

 ووسط كل هذا العناء ظهر ذلك الشخص حاملا معه بارقة الأمل.. وكان مزيجا من الصديق والأب والأخ الأكبر.. وأخيرا وجد ذلك الطفل ضالته.. بكى أشد البكاء فرحا.. محدثا ذاته بأنه وأخيرا سيغلق تلك الهوة بداخله وسيحمل معه الضوء مخترقا ذلك الثقب الأسود وسيفعل ذلك.. وأخيرا في غير وحدة.. لأنه وجد أخيرا ما عاش طوال حياته يبحث عنه.

أصبح ذلك الطفل الذي بداخله أخيرا حرا ومستعدا لكل ما تحمله الحياة.. صارح هذا الطفل ذلك الشخص بما يراه فيه وبأنه يمثل العالم في عينيه وأنه يراه أبا وأخا وصديقا.. طلب منه أن يعاهده على أن يظل بجانبه.. وألا يتخلى عنه أبدا.. وأبدى له ذلك الشخص تفهما كاملا لكل ما قاله ووافقه بكامل إرادته أن يصبح ذلك الأمل البعيد الذي لطالما حلم به وافق بكامل إرادته أن يمنحه رفقة الصديق وعون الأخ وحنان الأب. 

لم يكن يدرك هذا الطفل أن حتى أفضل البشر قد يتغيرون.. وأنه لا شيء مضمون في هذه الحياة فقد تغير ذلك الشخص ربما لم يكن هو الشخص  المنشود ربما لم يكن مستعدا لأن يتحمل عبء أحد آخر في عالمه.. ولكنه أقر بعكس ذلك وأنه على أتم استعداد ليكون الشخص المنشود.

ولكنه، وبكل الأسف، تغيَّر.. وبدلا من أن يصبح  مصدر الأمل صار هو مصدر الألم.. تغيَّر كما يتغير الكثيرون.. ولم يعد ذلك الصديق والأخ والأب.. وفضل أن ينشغل بحياته الخاصة.. تاركا ذلك الطفل وحيدا من جديد برغم أنه لم يكن مطالبا بالكثير.. لم يكن مطالبا بأي عبء من أعباء الحياة.. كان كل ما ينتظره منه ذلك الطفل هو التواجد.. وإن كان حتى بمجرد رسالة أو مكالمة كل عدة أيام.. ولكن حتى هذا استكثره عليه؛ فقد تغير.. لم يعد ذلك الشخص الذي يخرج برفقته من آن لآخر أو يبحث عنه ليتسامرا معا أو ليتشاركا حديثا شيقا ينهيان به مشقة أحد الأيام.  

ويومًا بعد يوم عاد ذلك الطفل وحيدا من جديد.. بل زاد ألمه ومعاناته.. فقد فقد حلمه وأمله.. بعد أن صار واقعًا بين يديه بعد أن رآه وتحسسه.

من أين كل تلك القسوة التي تجعلك تسلب أحدهم أملا عاش يبحث عنه طوال حياته أن تسلبه الضوء الذي أنار وحدته.. ألا تعد تلك جريمة؟!

أن تعطي أحدَهم أملًا ثم تسرقه وتمضي.. وكأن شيئا لم يكن هو والقتل سواء، فقتل الروح لا يختلف كثيرا عن قتل الجسد.

Advertisements
الجريدة الرسمية