رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

عندما قالت الممرضة "مين قال له يعمل حادثة"

من غير المقبول أن يدخل مواطن مصرى – أيا كان مستواه الاجتماعى - مستشفى حكوميا محمولا على نقالة بين الحياة والموت، ثم لا يجد طبيبا يكشف عليه، ولا غرفة عناية مركزة يوضع فيها تحت الملاحظة، ولا سريرا يأويه، هذا وضع غير إنسانى وغير أخلاقى وغير مقبول.

هذه مقدمة لا بد منها قبل أن أروى لكم وقائع ما حدث مع شاب من أقارب زوجتى فى أحد المستشفيات بإحدى مدن الدلتا منذ أيام، الشاب الذى يبلغ من العمر 19 عاما كان يقود دراجة نارية ليلا وتعرض لحادث خطير، حيث زحف بعد سقوطه على أرض أسفلتية مسافة كبيرة وأسفر السقوط عن طمس لمعالم وجهه واشتباه فى نزيف داخلى بالمخ وكسور فى العظام وخلافه، كان الشاب فى غيبوبة تامة وفاقدا للوعى حتى ظن أهله وذووه أنه قد مات، وبدأ الصراخ والنحيب والبكاء، حملوه للمستشفى الجامعى فى تمام الساعة العاشرة والنصف مساء، وهناك كانت المأساة التى تتكرر مع كثير من المصريين الغلابة، تم إدخاله بتذكرة ولكن تم ضعه جثة هامدة بين الحياة والموت على "تروللى" فى إحدى طرقات المستشفى من الحادية عشرة مساء وحتى الخامسة والنصف فجرا بعد تحويله من الطوارئ إلى القسم المعنى بمتابعة حالته ووضعه تحت الملاحظة، ولكن لم يكن بالمستشفى طبيب يقوم بالكشف عليه، ولم يكن ممكنا إدخاله لإحدى الغرف لأنه للأسف لا توجد أسِرَة تكفى بعد أن ضاق المستشفى بمرضاه، اتصل مرافقوه أكثر من 20 مرة بالمدير الإدارى المناوب للمستشفى وهو طبيب، ورقم موبايله بالمناسبة معلق للجميع على حائط المستشفى لكنه لم يرد.

وزير التموين.. من الإحسان إلى "الأنعرة"

عند الواحدة والنصف صباحا اضطر أهالى الشاب المصاب إلى الطرق بشدة على باب الممرضة مشرفة الدور الذى كان «مرميا» فى طرقته وكانت نائمة، فخرجت ثائرة ممتعضة مستفزة ثم قالت لهم بانفعال "لا يوجد له سرير، ومين اللى قال له يعمل حادثة؟" وعندما ناقشها أحد الغاضبين من أقارب الشاب بانفعال، قالت له "انت مين علشان تتكلم معايا بالطريقة دى"، ثم أغلقت باب الغرفة وعادت للنوم. كان بكاء ونحيب وصراخ وثورة أقارب الشاب المرافقين يختلط مع آهات وأنين المرضى الآخرين فى نفس الدور، خصوصا وهم يرون ابنهم ينزف ويشرف على الموت دون أن يتحرك أحد فى المستشفى ولو من باب الإنسانية، وكانت أم الشاب تنتحب بالدعاء بصوت مسموع يختلط بالبكاء على كل العاملين بالمستشفى بأن يريهم الله فى أولادهم كما ترى هى الآن فى ابنها، و"تحسبن" عليهم وعلى كل من مات قلبه وضميره وإنسانيته، وكان المرافقون للشاب المصاب يهبطون ويصعدون سلالم المستشفى كخلية النحل بحثا عن غرفة الطبيب المناوب الذى لايرد على تليفونه ، لجأوا لموظفى أمن المستشفى فقالوا لهم بتحد "إذا كان مش عاجبكم اتصلوا بالنجدة وأبلغوها بما يحدث وشوفوها هتعمل لكم إيه"، إلى أن نصحهم شخص  بالذهاب الى مستشفى آخر مجاور يمتلك إمكانيات أفضل، وبالفعل حملوه الى هناك.

فى نفس هذا المستشفى الجامعى أسمع دوما من أقاربى حكايات عن مرضى يفترشون الطرقات بالأيام فى انتظار سرير أو مغادرة مريض، وعن آباء وأمهات يستجدون الأطباء بل ويقبلون أيديهم لكى يحنوا عليهم ويوقعوا الكشف الطبى على أبنائهم الذين جاءوا مصابين فى حوادث أو طوارئ، ناهيك عن أن العلاج المجاني فى تلك المستشفيات صار من الماضى، وكل أشعة أو تحليل أو كشف أو حبة دواء يدفع المريض ثمنها، فانتهت المجانية وضاعت الآدمية فى آن واحد، رغم أن العلاج الآدمى المجانى حق لكل مصرى. 

يحدث في الأتوبيس "أبو 7 جنيه"

هذه الواقعة لا أرصدها من أجل التحقيق فيها، ولا أرغب فى أن يتصل بى مسئول من وزارة الصحة لكى يحصل على بيانات المستشفى ليوقع عقوبة على أحد أو بيانات الشاب ليعتذر لذويه عن التقصير، فلا نريد حلا فرديا بالتجزئة، نريد حلا شاملا وجذريا وراديكاليا لمأساة تتكرر كل يوم فى كثير من مستشفيات مصر، فالممرضة والطبيب وموظف الأمن وكل من يعمل فى مستشفى حكومى هو جزء من منظومة فاشلة حان وقت استئصالها والتخلص منها، واستبدالها بمنظومة تقوم على إيمان كل هؤلاء بآدمية الإنسان وكرامته أولا، وبحقه فى الحياة والعلاج المجانى الذى يعد أول وأهم وأكبر استحقاق على الدولة – أى دولة – تجاه مواطنيها، ثم إن هذه الممرضة لن تبتسم فى وجه المريض ومن الطبيعى أن تتصادم مع ذويه لأن مرتبها الضئيل لا يكفى للابتسامة، والطبيب المناوب معذور على عدم رده على التليفون لأن لديه قائمة استحقاقات مالية تجعل ما يتقاضاه لا يكفى لأن يعيش حياة الأطباء الكريمة، وكذلك موظف الأمن والإداريين وغيرهم.

لا يجوز الحديث عن تطور منظومة الصحة فى مصر فى ظل وجود ناس غلابة يتعرضون لحوادث خطيرة ويدفعهم الفقر والفاقة إلى الذهاب محمولين للمستشفيات الحكومية فى حالة طوارىء ثم يتم إلقاؤهم فى الطرقات لأن أسرتها ضاقت بمرضاها.

صحيح أن الدولة أضافت إلى بند الصحة فى ميزانيتها أكثر من 12 مليار جنيه العام الحالى لتصبح  73 مليار جنيه، المواطن الغلبان لا يشعر بهذه الإضافة لأن نصفها تقريبا - 35 مليار جنيه - يذهب للأجور والباقى لبنود لاتهم المريض فى شيء مثل تعويضات العاملين وأغذيتهم ودعم الأدوية وألبان الأطفال والصيانة والوقود والزيوت، نحتاج لإعادة صياغة مواد تلك الميزانية ليصبح بند الصحة هو "السيد" الذى يستأثر بالنسبة الأكبر دون غيره لأنها لا تكفى لكفالة حق العلاج الآدمى والمجانى لكل مصرى.

كـــلام فـــى الغـــلاء

يا سادة.. الدخول لأى مستشفى حكومى فى مصر يكفى لإصابة الإنسان بالمرض حتى لو لم يكن مريضا ويكسر النفس من هول ما يراه من مشاهد غير آدمية وغير إنسانية، وكما يقولون "داخلها مفقود وخارجها مولود"، فالغلابة فى هذا البلد لا يجدون علاجا، ومن لا يملك مالا وفيرا يعالج به فى مستشفى استثمارى .. لا يذهب لأى مستشفى حكومى لأنه.. قد يموت.

يجب أن تكون الأولوية فى أموال هذا البلد وقبل أى شيء آخر لبناء مستشفيات وغرف عناية مركزة تكفى لاستيعاب كل المرضى وتعالجهم علاجا آدميا دون أن يشعروا أنهم يتسولون هذا الحق ، نحتاج فى إنفاقنا إلى فقه الأولويات، ويجب أن يكون حصول كل مريض على سرير حق لا يقبل الجدال أو النقاش، ولا قيمة لحديث عن تنمية أو تقدم أو إنجازات ما لم يجد كل مصرى تعرض لطارئ صحى مكانا فى مستشفيات الدولة.  

Advertisements
الجريدة الرسمية