رئيس التحرير
عصام كامل

البشير.. من القصر إلى الإصلاحية

بعد ثلاثين عاما من الاستيلاء على كرسى الحكم، كان خلالها هو من يتهم، وهو من يحبس، وهو من يقود، وهو من يقرر، وهو من يصفق له الجميع، بعد ثلاثين عاما من نعيم الحكم، يقرر القاضى أنه فاسد.. نعم، هذا هو "عمر البشير" الذي صال وجال طوال ثلاثين عاما قضاها قابعا على صدر شعب السودان، قضاها وهو صاحب القول الفصل وصاحب الكلمة العليا وصاحب كل شيء حتى أصبح بقرار قاض مجرد لص فاسد وعابث بأموال بلاده ومستولٍ عليها.

 

في ظل النظم الديكتاتورية فقط يخرج صاحب الكلمة العليا في النهاية طريدا لا يجد بلادا تستقبله، ويتحول من حال كونه رئيسا يأمر فيطاع إلى وصمة في جبين عائلته وأهله وناسه وعار يطارد سيرته ومسيرته، يصبح لصا أو قاتلا أو فاسدا أو خائنا بقرار قاضٍ، وما بين المقعدين ذكريات لا يعيها إلا التاريخ: مقعده في القصر ومحبسه في السجن فارق إنساني عظيم.. بالأمس القريب كانت القوات تحرس الرئيس، والطائرات الخاصة تنقله، والحاشية تنفذ تعليماته، والآن هو رهين زنزانة أو مؤسسة إصلاحية لتأديب وتهذيب وإعادة تأهيل المجرمين.

اقرأ أيضا: السراج ليس خائنا أو عميلا

البشير الذي كان يتحكم في مصائر العباد، فيسجن من يشاء، ويطلق سراح من يريد، يصبح بين يوم وليلة مجرد سجين تطارده جرائمه ، وينام فوق "برش" وداخل غرفة كان قديما يضع فيها خصومه، وربما يسجن فيها مواطنون شرفاء كانوا يحلمون لوطنهم بالخير والنماء والاستقرار، قصاص عادل يضع الأمور في نصابها، فالرجل الذي كان يحدد ما هو وطني وما هو عميل يصبح رهين النطق العادل من محكمة دنياوية تفصل بين البشر.. أصبح بشرا عاديا تسري عليه قوانين العامة!!

 

عمر البشير الذي غاص ببلاده في الجهل والوحل، وطارد النور والعلم والحرية ينعم الآن بقرار قاضٍ يرى أنه تعدى السبعين، وأنه رغم فساده لا يمكن إيداعه السجن.. رأفة ورحمة جاءته من فوق منصة العدل، لتكتفي بإيداعه عامين في مؤسسة إصلاحية، شيخوخته أنقذته غير أن تلك الشيخوخة لا تنفي عنه فساده، واستيلاءه على أموال الشعب الذي لا يزال يبحث في ملفه، ويعتبر الحكم الأول غيضا من فيض.

واقرأ أيضا: سنة ثانية جائزة

الرجل الذي كان بالأمس القريب يجالس الأمراء والملوك والرؤساء، ها هو يبحث في غرفة صغيرة عن مثيل له، ربما يجده ثقيل الظل، أو يرى في نفسه أنه أشرف منه.. من النوم في القصر إلى "فرشة" على أرض صلبة جامدة باردة تعانق انكساره لينظر في السقف الملطخ، ويتملى في جدران بالية مهترئة، وربما يكتب على حوائطها بعض اعترافات إن منّ الله عليه بنعمة الاعتراف ليلقى ربه تائبا مما فعل بوطن وشعب على مدار ثلاثين عاما. سبحانك ربى تنزع الملك ممن تشاء.

 

الجريدة الرسمية