رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

يوسف إدريس يكتب: معركة ضد البرد

الكاتب يوسف إدريس
الكاتب يوسف إدريس

فى كتابه "شاهد عصره" كتب الدكتور يوسف إدريس فصلا يقول فيه: وأنا أتلقى الدرس الكبير من الطبيعة كنت لا أكاد أصدقه، أحيانا يخيل إلي أن بساطًا سحريًا نقلنى فى الأحلام إلى قلب الغابة، وأحيانا يخيل لي أن الروعة أكبر من أن تكون حقيقة، فهو لم يكن جميلا فحسب، كان مروعا موقظا مستفزا "السقوط" وهكذا راحوا يتحدثون عنه ببساطة وكأنها مسألة جو أو وقت.

وأنا من فرط الروعة أحس أنى وحدى المنفعل المبهور المتوجس.. السقوط، الغابة بأشجارها العالية المشرئبة فى استقامة نحو الفضاء سرحه كالبالرينا النحيلة اليافعة ثم السقوط. قالوا غدا سيبدأ السقوط، وأخذتها ككل الكلام ببساطة أو بلا تصديق حقيقى لما يقولون، منذ ساعات الصباح الأولى بدأ الشتاء، بدأت أوراق الشجر الكثيفة الخضراء تشحب، وفى اليوم التالى بدأت تصفر ثم بدأت تتساقط والأرض تلك التى كانت جرداء عارية إلا من أعشابها التقليدية بدأت تستقبل الورق الساقط، آلاف الأوراق تفرش الأرض وتهب الرياح فتدفعها موشوشة وتتطاير بها أدراج الرياح.

 

وفى أسبوع واحد كانت كل الأوراق تساقطت تماما من فوق الأشجار، واصبحت كل شجرة ليست سوى الساق الرفيعة ذات الأفرع الصغيرة واقفة جرداء كجماعة نسوة كبيرة محلوقات الشعر. عجبت للسرعة التى تمت بها هذه العملية والدقة والشمولية، ومن قال لماء الحياة يجف فى الورقة إلى أن تسقط من تلقاء نفسها.. أهو الجو قد أعطى الأمر؟ لم يكن الجو قد تغير أبدا أنه نفس جو الأسبوع الماضى جو الشتاء ..ففيم هذا التعرى من الأوراق، وفيم الوقوف هكذا جرداء كأنها تحولت إلى جماد؟

محمد التابعى يكتب: كثرة المال وطول العمر

أسئلة سرعان ما أجابت عنها الطبيعة ذاتها وبدأت درجات الحرارة تنخفض إلى 10 تحت الصفر فى موسكو، وكانت الأشجار تستعد لقدوم الشتاء وكانت تعرف أن هناك معركة ستخوضها ضد البرد الهالك وضد الثلج الذى بدأ يتساقط كان عليها أن تتخلص من حملها الثقيل من الأوراق فانكمشت روح الحياة فيها وتحولت الجذوع والفروع الىما يشبه الأسلاك الخشبية الميتة، وما هى بميتة.

وقفت وسط الغابة الساكنة الصامتة والثلج يغمر الأرض بعدما كانت تغمرها الأوراق وآلاف الجنود الشجرية شامخة تحاول الدفاع عن نفسها ضد جو أصبح 30 تحت الصفر، وكان خليقا بى وأنا أرى الأشجار عالية جرداء فوق سطح أرضى شاسع أبيض مخيف أن أحس بالوحشة والضياع، ولكنى لم أفعل بالعكس أحسست رغم البرودة الصارخة بدفء الإحساس بالحياة، ولا شيء يجعلك تؤمن بالحياة وتتدفأ بإيمانك هذا قدر مشاهدتك لها وهى تقاوم عناصر فنائها بأعنف وأخلد مقاومة.

أحسست بالغابة المتجردة جميلة يا لروعة جمال المقاومة وهى تسخر بالشتاء من الشتاء، إنها الباقية لكن الشتاء سيزول وسيحضر حتما الربيع حينئذ ستخضر أوراقها وتتغنى الغابة وتتراقص مع النسمات.

Advertisements
الجريدة الرسمية