رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

«لقاء يرد الروح» .. فلسطيني يلتقي أمه المصرية بعد «20 سنة فراقا»

أمجد ووالدته يلتقيان
أمجد ووالدته يلتقيان بعد 20 عاما من الفراق

صيف عام 1999، ودعت السيدة نيفين مهنا، المولودة لأب فلسطيني وأم مصرية قطاع غزة في رحلة علاجية إلى مصر، للتخلص من آلام الظهر ودوالي القدمين بعد  فترة قليلة من انفصالها عن زوجها.

 تركت الأم الشابة أبناءها الستة لدى أبيهم، وحزمت حقائبها إلى القاهرة على أمل لقاء قريب يجمعها بفلذات كبدها، لكن اللقاء امتد لأكثر من 20 عاما ، حالت الأوضاع السياسية والأمنية فى القطاع دون عودتها من جديد إلى مسقط رأسها ، استسلمت للأمر الواقع وبدأت حياة جديدة فى مصر تزوجت مصريا وأنجبت منه ولدين.

 

بحكم العادات والتقاليد لم يكن مسموحا للأم التواصل مع أبنائها فى بيت طليقها، لكنها كانت تطمئن على أحوالهم عبر أهلها القاطنين معهم بنفس الحي. 

«أمجد» أحد الأبناء الستة، حينها لم يكن قد بلغ عامه التاسع، بالكاد يعي ما يحدث حوله، يتسلل شعور الخوف إلى صدره شيئا فشيئا، أدرك أنها لحظة وداع، دموع الأم، حضنها الدافئ، ضمها له الذي يكاد يكسر ضلوعه، ثم رحيل طويل: «ما في أصعب من إنه يكون بينك وبين أمك ست ساعات سفر، وتحتاج لعشرين سنة حتى تقابلها وتشوفها مرة ثانية».

بعد مرور ما يقرب من 20 عاما، داخل إحدى البنايات المتراصة بشارع الفيومي في مدينة بنها بمحافظة القليوبية، تجلس الأم نيفين تقف في شرفة المنزل، تصرخ باكية وتتملكها اللهفة ويغلبها الشوق، تصرخ بصوت عال، نجلها الأكبر تراه يعبر الشارع في اتجاهها، بعد أن كان يفصلها عنه ألاف الكيلومترات الآن يفصلها عنه بضعة أمتار، تهرول الأم مسرعة: «ابني هذا ابني يا ناس أنا حسيت بيه، عشرين سنة ما شفتوش ولا شفت إخواته».

 

فصول القصة تبدأ من عام 1988 حين تزوجت السيدة نيفين من والد أمجد ، عاشا في منزل العائلة بالقطاع، سنة وراء الأخرى يكبر الأولاد في حين تكبر معهم الخلافات بين الأب والأم، حتى أصبح البقاء في هذه الزيجة أمرا مستحيلا فانفصلا عن بعضهما، كانت حينها تعاني آلاما فى الظهر بالإضافة إلى دوالي القدمين، مما اضطرها للانتقال إلى مصر لتقلي العلاج: "أنا أمي مصرية ووالدي فلسطيني قررت بعد الانفصال أرجع مصر أتعالج، كانت المفروض فترة وهرجع لكن العلاج طول وبقيت بمصر، تزوجت بعد ذلك من مصري وحصلت بعدها بسنتين على الجنسية المصرية ".

 

قنصلية فلسطين بالإسكندرية تحيي اليوم العالمي للتضامن (صور)

طوال  عشر سنوات منذ رحيل الأم عن غزة ، انقطع الاتصال بينها وبين أمجد وإخوته، حتى جاء عام 2009 وتحديدا في منتصف ديسمبر 2008 وحتى يناير 2009، وما أطلق عليها بحرب "الرصاص المصبوب"، كان أمجد في التاسعة عشرة من عمره، يشاهد البيوت حوله وهي تدك، الأصدقاء والمعارف يسقطون شهداء الواحد تلو الآخر، شعور الوحشة الذي ضرب صدره منذ رحيل الأم نمى وتضاعف عشرات المرات، أتت ليلة من ليالي الحرب، حينما دق جرس الهاتف، فرفع أمجد السماعة، "لقيت جدتي بتقول لي أخباركم إيه يا أمجد سمعنا إنه فيه قصف عندكم، أعطت بعدها السماعة لسيدة سمعت صوت تنهيدتها وبكائها بشدة، قالت لي:” أنا إمك يا أمجد كيفكن يا حبيبي أنا إمك، انصدمت أغلقت السماعة ثم عاودت هي الاتصال بي مرة أخرى". 

 

كانت هذه اللحظة الفارقة في حياة الصبي الذي أجبرته ظروف الحروب والانقسامات والحدود على ألا يرى أمه طوال هذه السنوات، إيذانا أن يُجمع الشمل مرة أخرى، ولو من خلف شاشة حاسوب أو خلال سماعة الهاتف ، تحكي الأم اسباب انقطاع الاتصال بينها وبين أولادها طيلة العشر سنوات: "كان صعب عليا لأنها عادات وتقاليد إني اتصل بمنزل طليقي كل فترة بهيك شكل، لذلك ما صدقت سمعت بياللي اسمه فيس بوك وإنه بنقدر من خلاله نكلم أي شخص بعيد عنا بكل سهولة، اشتريت جهاز كمبيوتر وبدأت أكلم الأولاد عليه".

فلسطين عن قرار الكونجرس بشأن حل الدولتين والاستيطان: أقوى رد على سياسة ترامب الخاطئة

كان دخول موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، طوق النجاة للسيدة نيفين وابنها أمجد، تواصلا فيما بينهما من خلاله :"كنت بكلمه تقريبا كل يوم كان وقتها النت مش بقوة دلوقتي، وكمان كانوا بيقطعوا عن غزة النت كثير متل ما بنعرف"، بلهجة فلسطينية تغلب عليها المصرية من وقت لآخر تتحدث السيدة نيفين. ومن خلال الفيس بوك عادت المياه لتسير في مجراها مرة أخرى.

تخرج أمجد من قسم الصحافة والعلاقات العامة بالجامعة في غزة، عمل منذ تخرجه وحتى هذه اللحظة كصحفي حر في عدد من وكالات الأنباء العربية والعالمية، تخصص في كتابة وتصوير القصص الإنسانية بالقطاع، لنجد بعد ذلك أنه هو ذاته قصة إنسانية فريدة تستحق أن تُروى، قدم على أكثر من 14 منحة في عدد من الدول العربية والأوروربية عساه ينجح في الخروج من القطاع المحاصر والحصول على فرصة لرؤية أمه ولو للحظات.

 "كنت كل مرة أتقدم على المنحة أنقبل لكن يرفض أمن المعابر خروجي، ويقولوا لي الحالات الإنسانية أولى بالخروج، حتى أتت منحة إحدى المنظمات الصحفية في العاصمة الأردنية عمّان، رحت لهناك بشهر تشرين الثاني/ نوفمبر".

 

فى  العاصمة الأردنية عمان توجه أمجد إلى السفارة المصرية بالأردن، طلب من والدته أن ترسل له أوراقها بحجة أنهم يطلبونها منه في العمل، "حبيت إنه تظل مفاجأة وما تعرف إلا لما أوصل لعندها"، وفي يوم واحد حصل أمجد على تأشيرة الدخول وفي  الأول من ديسمبر وصل إلى مطار القاهرة.

ليلة الثاني من ديسمبر هذا العام، يستعد أمجد للقاء الأم بعد غياب 20 عاما، لا يمكن أن تمحى من رأس أمجد ساعاتها لا تنقضي والنهار لا يأتي، "الساعة 10 صباحا لقيت صديق أمجد بيكلمني يقول لي افتحي لي جايب لك أغراض معي من أمجد، كنت تأكدت وقتها أن أمجد رجع لغزة وما رح أشوفه، حتى خرجت لشرفة المنزل ولمحت جانب وجهه ، صرخت نزلت على السلم وتعب كل السنين اللي فاتت وآلام ظهري نسيتهم راحوا، كنت كالفراشة أهرول فوق درجات السلم، لأخذه فى حضني ، ومن يوم ما وصل ما فارقني بنقعد سواء بأكله بط وحمام وأكل مصري، بنحكي سوا عن أيام غزة".

 

 

"وتكبر بي الطفولة يوما على صدر يوم"، هذه العبارة التي كانت ضمن قصيدة كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش لأمه من سجنه، كادت تفسر وبحذافيرها على حالة أمجد لحظة القى بجسده بين ذراعي أمه، "حسيت حالي رجعت طفل عنده 9 سنوات مرة أخرى؛ شاب عاش بغزة وشاف أصحابه بيستشهدوا حروب هنا وهناك، دمار وجثث بالشوارع، نسيت كل إشي بس لحظة ما شفت أمي أمامي وحضنتها".

عاد أمجد طفل التاسعة مرة أخرى وكذلك عادت الأم نيفين إلى شبابها وجددته في أقل من الثانية، باتت أمنية أمجد الذي تفصله أيام قليلة لتتجدد المعاناة مرة أخرى بعد عودته إلى القطاع، أن تمنحه الحكومة المصرية الجنسية وأن يصبح بإمكانه وبكل سهولة زيارة أمه من وقت لآخر والبقاء معها، "أمي بدها تشوف إخوتي وما بتعرف، بتمنى إنه ينظر لنا وللأسر التي هي مثلنا بعض الشيء نريد لم الشمل".

 

Advertisements
الجريدة الرسمية