رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

مجتمعاتنا العربية.. تخنق العلم والإبداع !!


تحدثنا الأسبوع الماضي عن الفساد في الوطن العربي واتخذنا من مصر نموذجا، وأوضحنا كيف ارتبط الفساد بالسلطة السياسية لدرجة أصبحت فيها الدولة راعية للفساد، ونواصل الحديث هذا الأسبوع عن كيف أصبحت مجتمعاتنا العربية التي تعتمد على الفساد والفهلوة تخنق العلم والإبداع، وسوف نعتمد مصر نموذجا يمكن التعميم من خلاله على غالبية مجتمعاتنا العربية، فما شهدته الدولة المصرية منذ مطلع السبعينيات أسس لما يمكن أن نطلق عليه بقلب وضمير مستريح دولة الفساد والفهلوة.


التي وضع بذورها الجنينية الرئيس "السادات" عندما أعلن تخليه عن المشروع الوطنى والقومى الذي أسست له ثورة 23 يوليو 1952، حين وضعت الدولة الجديدة المتحررة لتوها من براثن الاستعمار منظومة قيم جديدة تعلي من قيمة العلم، وتدعم وتشجع الموهبة، وترفع وتقدر الإبداع، ويحصل الإنسان على الفرص المتاحة في كافة مجالات الحياة وفقا لقدراته وإمكاناته وعلمه وموهبته وإبداعه، دون أن يضطر للجوء إلى طرق ملتوية وغير شرعية، وخلال هذه المرحلة تمكن أبناء الفقراء والكادحين من الصعود الاجتماعي عبر الآليات الشرعية التي وضعتها الجمهورية الوليدة، ووفقا لمنظومة القيم التي تعلي من شأن العلم والموهبة والإبداع.

وبرحيل قائد الثورة "جمال عبد الناصر" قرر "أنور السادات" الانقلاب على المنظومة التي بني عليها المشروع الوطنى والقومى المستقل، لصالح مشروع التبعية للنظام الرأسمالي العالمي، والذي يتطلب منظومة قيم جديدة تساعد على تكريس التخلف لاستمرار التبعية، وعدم القدرة على الفكاك منها، ومن هنا بدأت منظومة القيم القديمة في التحلل والانهيار لصالح منظومة قيم جديدة..

فالدولة التي بدأ تأسيسها في مطلع السبعينيات تعلي من قيم النفاق والفهلوة والمحسوبية والوساطة والرشوة والولاء للسلطة وتمجيد الحاكم، وذلك من أجل الحصول على الفرص المتاحة في كافة مجالات الحياة، ومن هنا وجد من استطاع استيعاب هذه القيم الجديدة الطريق ممهد للصعود والترقي داخل كل مؤسسات الدولة، وهو ما جعل أصحاب العلم يختنقون، وأصحاب الموهبة يحتضرون، والمبدعون يموتون كمدا.

وفي ظل ما يطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي "إميل دور كايم" حالة الأنومي الاجتماعية أو فقدان المعايير نتيجة انهيار منظومة القيم القديمة وإعادة بناء منظومة القيم الجديدة وهى الحالة التي تصيب المجتمعات في المراحل الانتقالية، فإن المجتمع المصرى قد شهد هذه المرحلة منذ مطلع السبعينيات حتى تمكن من بناء منظومة القيم الجديدة..

وللأسف الشديد جاءت منظومة القيم الجديدة مختلة إلى حد كبير، وقائمة على الفساد والفهلوة، وفي إطار القيم الجديدة شعر كثير من المواطنين الذين مازالوا متمسكين بالقيم القديمة القائمة على العلم والموهبة والإبداع بما يطلق عليه "كارل ماركس" حالة الاغتراب حتى وهو يعيش داخل مجتمعه، وما يزيد الطين بله أنه يقع في صراع شديد بين منظومة القيم التي يؤمن بها ومنظومة القيم التي يعتمدها المجتمع، ويعتبرها الآلية الصالحة للتعايش والحصول على الفرص المتاحة في كافة مناحى الحياة.

وفي ظل منظومة القيم الجديدة التي اعتمدتها دولة التبعية أصبح نموذج الفساد والفهلوة هو النموذج الأكثر شيوعا وانتشارا داخل المجتمع، فلا يستطيع مواطن أن يصعد ويرتقى السلم الاجتماعي والحصول على الفرص المتاحة في كافة مناحى الحياة وداخل مؤسسات دولة الفساد والفهلوة إلا من خلال المحسوبية والوساطة والرشوة والنفاق والعمالة وكتابة التقارير للأجهزة الأمنية تطوعا.

لذلك لا عجب "أن تجد كثيرا من المسؤولين في كافة مؤسسات الدولة يتحدثون -بدون حياء أو خجل- إلى من يمتلكون العلم والموهبة والإبداع ليؤكدوا لهم أنهم لم ولن يحصلوا على ما يستحقونه داخل مجتمعهم لأنهم لا يمتلكون هذه القيم المنحطة، وأن صعودهم الاجتماعي وترقيهم الوظيفي لا يعتمد على العلم أو الموهبة أو الإبداع بل يعتمد على قدراتهم على النفاق وتقديم الرشوة وكتابة التقارير الأمنية في زملائهم".

ولا عجب أن يعاقب أصحاب المبادئ والقيم النبيلة عبر دولة الفساد والفهلوة التي تخنق العلم والموهبة والإبداع، لذلك إذا أردنا الإصلاح والتغيير الحقيقي فلابد من التخلص من منظومة قيم الفساد والفهلوة التي ترسخت منذ مطلع السبعينيات، وإعادة بناء منظومة قيم جديدة تعلي من قيمة العلم والموهبة والإبداع في مصر وكل مجتمعاتنا العربية..

وبالطبع لا يمكن أن يحدث ذلك بين يوم وليلة، فالمعركة تتطلب نفس طويل، يمكن أن يبدأ بإعلان التحرر من التبعية وإعادة إحياء المشروع الوطنى والقومى المستقل، ثم الدخول في معركة مواجهة الفساد والفهلوة، وفى النهاية تأتى مرحلة بناء منظومة القيم الجديدة القائمة على العلم والموهبة والإبداع، لتحل محل القيم السائدة التي تعتمد على الرشوة والمحسوبية والوساطة والنفاق وكتابة التقارير الأمنية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
Advertisements
الجريدة الرسمية