رئيس التحرير
عصام كامل

فكري أباظة في حوار صريح مع جمال عبد الناصر

فيتو

في مجلة المصور عام 1954 أجرى الكاتب الصحفى فكرى أباظة حوارا مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر افتتحه أباظة بقوله:

كانت هذه أول مقابلاتى للرئيس جمال عبد الناصر وكل ما سبق من مقابلات كان في مؤتمرات صحفية أو اجتماعات وزارية بصفتى الصحفية.


كانت أحاديثه صريحة وكان ناعما متواضعا يقبل النقد عن سعة صدره ويسلم به أن كان صادقا وبريئا.

وفى صيف عام 1953 وبعد عودتي من أوروبا بعد رحلة صيف دعيت لتناول الشاي في مسكنه المتواضع ومعي خمسة من كبار الساسة، وحضر الاجتماع زملاؤه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان الحديث بحث العرض الإنجليزي إذ ذاك.

ودهشت فقد كان يثير مسائل غاية في الدقة، ولا يتدخل إلا عندما تتهيأ له الفرصة في الأخذ بتلابيبنا، واقتناص الخطأ فيما نبديه من الآراء بكل رقة وطيبة وأدب جم.

أهكذا هو الرجل المخيف الرهيب، اللغز.. لا والله وألف لا، إلى أن استأنست إليه، وطاردت وطردت اشباحى وأوهامي وهواجسي في جلسة أو جلستين طويلتين معه وفى عزلة تامة أنا وهو فقط.

عرفت بعدها أن أعدى أعداء هذا الرجل هو أنه لم يعرف كيف يعرفه الناس فلم يعرفهم ولم يتعرف إليهم.

وفي حوار لي معه قلت له: كن على ثقة بأن أعنف خصومكم لا يرضى عن حكمكم بديلا لسبب واحد وهو أنه لا بديل، ولأنكم هدمتم وأزلتم الأنقاض وشيدتم ووضعتم حلولا لأفدح القضايا السياسية، فطوقت المسئولية الفادحة أعناقكم، ومن غيركم يرضى أن يقع في الفخ ويتورط.

في هاتين الجلستين عرفت الرجل على حقيقته بعد ثلاثة أعوام من الثورة وحللت اللغز. شجعنى ظرفه على أن أطالبه بأن يتصل بالناس وقلت له صراحة أخذتم من الإقطاعيين أطيانهم للمصلحة العامة فلم يفعلوا شيئا، وأطحتم بالسياسيين والحزبيين المسئولين في سبيل المصلحة العامة فرضوا بحكمكم.

وطهرتم الوظائف ممن وقع عليهم حكم القانون فلم يفعلوا شيئا، وهؤلاء وغيرهم تقتضي وظيفة الحاكم أن يضمد جراحهم ولو بكلمة أو بمقابلة، ولو بالاستماع إلى ما في نفوسهم.

قال سيادته: الديكتاتور الصالح أصلح رجال الحكم.. قرأنا هذا في كتب الفقه.

قلت: نعم، قال: وقرأت لك بالذات دعوة حارة منذ أعوام عن الديكتاتورية الصالحة، وما رأيك في أنى لا أصلح ديكتاتورا؟ لأنى ديمقراطى بطبعى، ولأن الثورة ثورة ديمقراطية.. ولو انحرفت عن هذا الهدف لكتب الله لها الفشل، وثالثا لأننا جربنا الديكتاتورية الفردية، والديكتاتورية البرلمانية فكانت الكوارث وكان الفساد.

والعجيب في أمر هذا الرجل الذي صوروه بالجبروت والقسوة.. لأنهم لم يعرفوه، والعجيب أيضا أنه كان كالشعب في سخطه على الجريمة، وأسفه على العقاب وكأن حزم الحاكم كان يتعاون مع حنان الحاكم في داخلية نفسه فتؤرقه المعرفة.

تطرق الحديث إلى الشدة واللين فقال: أخشى ما أخشاه أننا إذا اتجهنا إلى الشدة استتبعت الشدة شدة، وليس لها آخر، وإذا انحرفنا إلى اللين استتبع الاستكان وهو شبهة الضعف، وإذا توسطنا بين الشدة واللين كنا مترنحين مترددين.

استغرق حديثي معه ثلاث ساعات أفرغت فيها كل هواجسي ومعلوماتى.. وبعد هل يستطيع كاتب أن يحصى واجبات هذا المسئول الأول عن الحكم في تلك المرحلة. العجيب أننى عرفت أنه يقرأ كل ما كتبناه ونكتبه ويقتطع السلخ ويدون عليها الملاحظات.
الجريدة الرسمية