رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

موسيقى سيد درويش تتحدى الزمن.. الموسيقار صاحب ثورة فنية في بداية القرن الماضي.. عالمية الألحان تجعله ضمن جيل الرواد.. والعقل الجمعي للمصريين سبب تخليد «بيتهوفن العرب»

سيد درويش
سيد درويش

"أهو ده اللي صار وآدي اللي كان.. ملكش حق تلوم عليا".. تلك هي عبارة التي أطلقها "أبو الموسيقى العربية" الراحل سيد درويش في مطلع أغنيته الشهيرة "أهو ده إلى صار"، والتي عدّها البعض سببا في وفاته بالتسمم، بعد مكيدة دبرتها حكومة الاحتلال الإنجليزي في مصر في العاشر من سبتمبر عام 1923.


إذا كنت شابا أو كهلا أو شيخا، تستمع إلى الأغنية بصوت المطربة اللبنانية فيروز أو الفنان علي الحجار أو غيرهما، حتما ستفتش دون قصد عن صوت سيد درويش عن قلب يحترق غيرة على وطن يسلبه جماعة من الغزاة حريته وكرامته، أما إذا أردت الاستماع إلى صوت منادٍ يوقظك من أجل بدء يوم عمل بعيدا عن الروتين اليومي الثابت، فاستمع إلى "شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك" بصوته الرفيع ليحفّزك على القيام إلى عملك حبا وطوعا لا كرها.

إرث سيد درويش
هكذا كان سيد درويش الذي تحل ذكرى وفاته هذا الشهر، والذي أثبت أن عدد السنوات التي يقضيها المرء في الحياة لا ترتبط بالضرورة بما سيقدمه ويتركه خلفه، فسيد درويش الذي مات في الواحدة والثلاثين من عمره، نجح في وقت قصير جدا في أن يغير من مسار الأغنية العربية والمصرية بشكل خاص، إلى منحنى جديد ومختلف تماما، فأصبح مجددا في تاريخ الأغنية الحديثة، قال يوما عن الموسيقى: "الموسيقى لغة عالمية، ونحن نخطئ حينما نصبغها بصبغة محلية".

ومن هذا المنطلق حاول درويش الانخراط في العمل مع فرقة "سليم عطا الله" اللبنانية الشهيرة، في عام 1910 بعد أن ظل مدة تسعة أشهر يغني في مقاهي الإسكندرية، مسقط رأسه، وخلال مشاركته في إحدى الحفلات تصادف حضور الشيخ سلامة حجازي، أحد كبار ملحني تلك الفترة، فشجعه على القدوم للقاهرة، وبالفعل ذهب معه للقاهرة وقدمه للجمهور إلا أن رد الفعل كان مخيبا للآمال، فبسبب صغر سنه وملابسه المتواضعة حينذاك، لاقى أداؤه سخرية وصفيرا لا ينقطع، حيث حاول الجمهور التشويش على ما يقدمه، فعاد إلى الإسكندرية بعد أن حمل في رأسه عبارة الشيخ سلامة حجازي الذي قال له: "لا تحزن أو تيأس يا فتى فأنت عبقري المستقبل".

التطوير
في تلك الفترة ضاق ذرعا بالموسيقى، فاضطر إلى العمل في أحد محال الأثاث بمدينة الإسكندرية، لكنه لم يتوقف عن تطوير ذاته خلال فترة الحرب العالمية الأولى، ذاع ما يقدمه من تطوير الموسيقى في القاهرة، فاستدعته فرقة "جورج أبيض" للعمل بها، وطلب منه جورج أبيض تلحين مسرحيته "فيروز شاه"، فقدم بها كل جديد تعلمه في فنون وتراث الموسيقى.

وفي عام 1918 تعرف على الفنان "نجيب الريحاني" ومن خلاله لحّن لجميع الفرق الموسيقية الموجودة في تلك الفترة، كما أدخل لأول مرة الفن "البوليفوني" من خلال أوبريت "العشرة الطيبة"، و"شهرزاد والباروكة" مع فرقتي نجيب الريحاني والفرقة المنافسة لها "علي الكسار"، ومع الفرقتين قدم أغنيات ما زالت حتى هذه اللحظة في مصاف الأغنيات الفلكلورية المصرية، التي تغنى بها عدد من مطربي الوطن العربي، مثل فيروز وصباح فخري والمطربة العالمية "داليدا"، كأغنيات "سالمة يا سلامة"، و"أهو ده اللي صار" و"أنا هويت"، و"الحلوة دي" و"زوروني كل سنة مرة".

العقل الجمعي
نادر جورج، الموزع والمؤرخ الموسيقي وعضو نقابة المهن الموسيقية، أكد أن سبب بقاء موسيقى سيد درويش في ذاكرة العقل الجمعي المصري، كونه انتهج منهجا لم يسبقه أحد فيه، وهو اعتباره الموسيقى لغة عالمية وليست محلية، فأصبح أي شخص من أي دولة في العالم يمكنه أن يترجم موسيقى سيد درويش، والمقصود بترجمة الموسيقى هو تركيب الجملة الموسيقية ووضعها أو دمجها مع كلمات أجنبية ونجدها ملائمة تماما.

لذلك حينما كانت ألحانه تقدم في محافل دولية كانت تجذب أنظار العالم، ويتساءلون من هو ذلك العبقري، وبالفعل هذا في حد ذاته يعد عبقرية وتفردا من قبل سيد درويش وسابقة لم يقدم عليها أحد من قبل، ويتابع جورج قائلا: "سيد درويش يعد الأب الروحي للموسيقى المصرية، فهو أول من أدمج الموسيقى الشرقية والغربية معا، وأيضا عمل نحو 30 أوبريتا وفوق الـ 200 لحن، في وقت لم يكن لها وجود من الأساس، ومع كبار المسرحيين آنذاك جورج أبيض ونجيب الريحاني، كأنه خلق شيئا من عدم، لذلك نجدها لا تموت ولا تفنى وما زال الشباب يتغنون بأغنياته.

«جورج» أشار أيضا إلى أن كبار الملحنين والموسيقيين المصريين والعرب حرصوا على إعادة غناء وتلحين أعماله مرة ثانية، فضلا عن إحياء أغنياته السياسية والاجتماعية التي كانت تعد صوت مصر الوحيد في تلك الفترة، فلم نجد شخصا حمل على عاتقه هموم البلد في وقت الاحتلال الإنجليزي مثله، "نحن الآن وفي عصرنا الحديث نستخدم تلك الأغنيات واستعنا بها وقت اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير كأنه سبق عصره بـ100 سنة وأكثر".

تلاميذه
وكما كان الأثر الذي تركه سيد درويش في نفوس الشعوب العربية كبيرا، ويمتد بجذوره إلى أبعاد عميقة، كان هو الأثر ذاته الذي تركه في نفوس كبار الفنانين والملحنين الذين عاصروه أو جاءوا بعده، ففي أحد حواراته الصحفية قال عنه الفنان الراحل نجيب الريحاني: "إن سيد درويش روح هائمة على وجه الأرض، روح غير مستقرة روح موسيقية تعجلت برحيلها من هذه الأرض".

أيضا قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في كتابه "رحلتي"، مشيدا بدوره الأدبي والموسيقي في حفظ التراث: "يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن، فسيد درويش هو من جعلني أستمع للغناء بحسي وعقلي، بعد أن كنت استمع إليها بحسي فقط.. إنه فكرة العصر التي لولاها ما لحن الملحنون بالأسلوب الذي يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة والحقيقية للأعمال المسرحية المصرية". "لو نسيت روحي، يجوز أنسى روحي، لكن أبدا لن أنسى سيد درويش يوما واحدا في عمري"، هذه العبارة قالها رائد المسرح العربي بديع خيري في أحد أحاديثه الصحفية حينما سئل عن سيد درويش وما تركه في نفسه، حيث وصفه بالحامل الأمين لهموم وطنه الاجتماعية والثقافية والسياسية.
Advertisements
الجريدة الرسمية