رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

فريدة النقاش تروي رحلة الـ80 عاما (1)..عرفت الاشتراكية في القرية.. وتعلّمت ضرب النار أثناء العدوان الثلاثي..«عبد الناصر» كان شخصي جدًا.. واعتقالات 59 كشفت الوجه الآخر لثورة يوليو

فريدة النقاش
فريدة النقاش


تحديد الموعد صباحًا، إشارة واضحة أنها من أصحاب المزاج النهاري الذي يكره عتمة الليل التي عاشت فيه كثيرًا، المنزل هادئ جدًا، في المنتصف «ترابيزة» عليها أوراق متناثرة، وجرائد تتوارى خلف كتاب بلون أحمر عنوانه «سلامي عليك يا زمن» لزوج أختها صلاح عيسى، أوراق أخرى أثبتت أن المرأة التي شارفت الثمانين مازالت تتابع عملها بشغف، تقرأ وتتابع وتحلل.


المسافة نصف متر تقريبًا بين الترابيزة التي استقبلتنا حولها والمكتبة المجاورة، بين المرأة الودودة المبتسمة الهادئة التي تصافحنا، وبين برواز يُظهرها ثائرة في قفص اتهام وسط 8 رجال، بين نظرة عطوفة ونظرة غاضبة، بين سيدة تمشي بتأنٍ وأخرى تضع رجلا على رجل في انتظار الحُكم عليها، نصف متر يلخص التاريخ بين ثائرة السبعينيات وجدة الألفية الثانية، وما بين النصف متر جلسنا لتحكي لنا الرحلة بين الصورتين، بين كونها «ثالث العصابة» التي تكونت من صلاح عيسى وأمينة النقاش وحسين عبد الرازق، وبين «تيتا» فريدة.

دعتنا بالأصدقاء في أول الحديث، فسهّلت طرح الكثير مما في جعبتنا من أسئلة، البداية حددناها نحن، من الأستاذ عبد المؤمن النقاش، الشاعر المُنتمي لمدرسة أبولو، والرجل الذي خرج من صلبه آل النقاش.

عودة للطفولة
ابتسمت بمجرد ذكر اسم أبيها، فقالت في البداية: إنه أهمل نفسه شعريًا بسبب التزامات الأسرة ومتطلباتها، كان عليه أن يطعم الجميع، وفي ظل إيمانه بتعليم الكل، فإن المسئولية تبقى مضاعفة وهم لم يكونوا أغنياء لكنهم باللفظ الدارج مستورين.

«أتولدت سنة 1940 في منية سمنود محافظة الدقهلية، الأسرة كبيرة 8 أشقاء، وكان ترتيبي الثالث، وفي الأسر اللي زي كده وفي ظل انشغال الأب والأم بمتطلبات الحياة فكل واحد كان بينقي صاحبه، أنا كان صديقي شقيقي الراحل وحيد النقاش، كان الأقرب ليا دايمًا»

في أسرة ربّها شاعر، كان لابد أن تكون الكتب في كل مكان في الشقة، ملقاة في الزوايا، ولذلك لم يكن من الغريب أن تقع عيني الطفلة فريدة على أول كتاب في حياتها، ليُصادف إنه ديوان المتنبي، لم تفقه شيئا مما رأته لكنها ظلت محتفظة بالاسم حتى الآن.

بذور اشتراكية
في منية سمنود تشكل الوعي الاشتراكي بامتياز، وتعرفت على موقف المرأة في أربعينيات القرن الماضي، كل الإشكاليات التي خاضت بسببها معارك طوال حياتها عرفتها في 12 سنة قبل الانتقال إلى القاهرة.

«أول ما خلصت الابتدائية قامت معركة في البلد بين الشيوخ ووالدي، الشيوخ شايفين إني مش لازم أكمل دراستي واقعد في البيت أتجوز، وبابا رفض وأصر على تعليمي، وقتها عرفت قد إيه رجال الدين ضد التعليم والمرأة وحريتها، وفضل معايا الموقف ده ، ومن هذا الموقف حددت اتجاهي لرجال الدين»

«كنت في المدرسة الابتدائية وكان معايا زميلتان، محسنة وكوثر، وكانتا من أشطر بنات الفصل، ولأنهم فقراء جدا اضطروا بعد الابتدائية للجلوس في البيت علشان الجواز، وضاع مستقبلهم، كانوا ممكن يكونوا أفضل مني بكتير، واللي كان مضايقني إني لما كنت بزورهم بعد كده الاقيهم يقعدوا على الأرض ويقولولي يا ست فريدة رغم إني زميلتهم، كان جلوسهم في البيت حادث مؤلم وصادم بالنسبة لي»

«وفي الوقت الذي اضطر والد محسنة وكوثر إلى منعهم من التعليم، كانت عائلة الخولي لها فيلا في البلد، وبها بلاط كمان، هنا سألت سؤالي الأول ليه في أغنياء وفقرا وفي عيلة الخولي ومحسنة وكوثر».

الانتقال للقاهرة
«قبل ثورة يوليو جيت القاهرة، طفلة مشافتش في حياتها أي مدينة، كان آخرى بروح قرية جنبينا بس، طول الطريق أخويا وحيد هو اللي بيشرح لي تاريخ مصر وسكنا في شبرا في البداية، والتحقت بمدرسة الأورمان بالعجوزة»

لم تمر أيام حتى اندلعت ثورة يوليو 1952، كصبية لديها قليل من الوعي السياسي شاهدت الأحداث «كنت فرحانة بيها وحاسة إن التغيير هيكون للأفضل، وقلت لازم يعلنوها جمهورية، وبدأت أعرف أسماءهم زي نجيب وغيره ومكنش عندنا راديو كنا بنسمع عند الجيران»

مع الأيام الأولى للثورة كانت حياتهم الأولى أيضًا في القاهرة، لم تكن الأمور على ما يرام، الحالة المادية في حاجة إلى بطولة، حتى يتم جميع الأولاد تعليمهم «رجاء هو اللي ليه الفضل في إنقاذ العيلة، وسد الفجوة بين مرتب ابويا ومصاريفنا، وهو اشتغل في تأسيس جريدة الجمهورية أول ما ابتدى السادات يعملها، وكان بيجيب جرايد كتير في البيت وابتدينا نقرأ كلنا، وكان يروح جامعة القاهرة من شبرا ماشي ويجي ماشي، علشان يوفر حق المواصلات، يجي يذاكر وينجح بتفوق وهو بيشتغل»

أول كلمة
صنوان لا يفترقان، فطالما هناك تظاهرات هناك قلم سيكتب، كانت المراهقة فريدة على موعد مع بداية خطواتها الصحفية من المدرسة، حين اقترحت عمل نشرة أخبار صباحية ونجحت في إقناع ناظرة المدرسة.

«كان ليا مدرسات نموذجيات، وأبرزهن ميسيز رينيه اللي كلفتنا بموضوع نكتبه كلنا بالإنجليزي ولما قرت اللي أنا كتبته قالتلي أنت لازم تقري اكتر لانك بتكتبي كويس، وراحت مدياني رواية تولستوي الحرب والسلام، وقالتلي انتي هتقري الرواية ديه طول السنة وتلخصهالي، وبالفعل عملت ملخص وعلشان كده اتخصصت آداب إنجليزي»

لم يكن لآل النقاش كتالوج يمكن النظر فيه لمعرفة كيف يفكرون، لذلك لم يكن هناك أي غضاضة أن تُمسك ابنتهم بالبندقية، لتتعلم ضرب النار إن كان ذلك من أجل الوطن «أول ما حصل العدوان الثلاثي 1956 اتطوعت في جبهة التحرير، ولكن التجربة مطولتش رغم أن عبد الناصر وثق في الشعب مرة وبقوا يوزعوا السلاح على الناس لأنها بلد فقيرة»

«عبد الناصر كان بياخد القرارات بناء على التجربة مش المعرفة، وده نتيجة خلفيته العسكرية، كانت التجربة ترشده أكثر من الثقافة، واتعلمت السلاح وافك البندقية لحد ما الحرب وقفت بسبب التدخل السوفيتي اللي محدش اتكلم عنه، وكان عندي استعداد أروح أحارب وأهلي كانوا موافقين»

في عام 1958، كانت فريدة النقاش تخلع ثوب المدرسة لترتدي ملابس الآنسات وتذهب للجامعة «أهم حاجة في الكلية إني كنت تلميذة للدكتور مجدي وهبة، وهو مثقف من نوع فريد، موسوعي وحريص على مساعدة الطلاب، فكنت بروح البيت واستلف كتب من مكتبه واتناقش معاه»

نساء ثائرات
الحركة النسوية كانت حاضرة أيضًا منذ اليوم الأول الذي وطأت قدمي في الجامعة «لو هنتكلم عن الحركة النسوية فلازم نتكلم عن درية شفيق وكانت نشيطة جدا وعاملة جريدة وجمعية وتنادي بحقوق المرأة، ولما جم يكتبوا أول دستور بعد ثورة يوليوـ طلبوا إنه حقوق النساء ينص عليه في الدستور سواء الانتخاب أو الترشيح، ومحدش سأل فيهم فاعتصمت مع 11 زميلة لها في نقابة الصحفيين، وأضربوا عن الطعام فبعت لهم محمد نجيب ووعدهم أن الدستور هيتضمن حقوق المرأة، وعلشان كده لما دخلت الجامعة كان في وهج للحركة النسوية، كمان ثورة يوليو كان عندها مشروع كبير للتصنيع وتسليح الجيش، وفتحت الباب لحاجتين بالنسبة للمرأة التعليم والعمل، الستات دخلوا المصانع لأن المصانع محتاجة أيدي عاملة»

العام الثاني في الجامعة كانت بداية الكتابة، بدأت هي بمقال عن سيمون دي بوليفار وأرسلته إلى مجلة الآداب التي  كانت ترأس تحريرها في هذا الوقت سهير الإدريسي، وفوجئت أنه منشور بشكل جيد لتكرر المحاولة «كتبت مقالا عن رواية الحرام ليوسف إدريس، وكانت الآداب أهم مجلة ثقافية في الوقت ده، وبعد كده نشرت مقالا عن إحسان عبد القدوس في جريدة الجمهورية، وأشاد بيه صلاح جاهين وبعلتي جواب يشكرني ومكنتش أعرفه شخصيًا، وإحسان قعد يدور 6 شهور مين اللي كاتب المقال ده مكنش مصدق إني لسه متخرجة من الجامعة وأكتب كده، وبسبب المقال ده رجاء ووحيد أخواتي، زعلوا مني قلتلهم أنا شخص وكل واحد فيكم شخص وحطيت حدود للوصاية على المرأة من أول يوم».

«التغريبة» هو المصطلح الذي أطلقه الشيوعيون على حملة الاعتقالات التي طالتهم بداية من عام 1959 وحتى 1964، لم تكن فريدة النقاش منتظمة في أي تنظيم حزبي، لكنها فكريًا كانت يسارية «حملة الاعتقالات بالنسبة لي كانت بداية ظهور الوجه المظلم لثورة يوليو لأنها مش بس اعتقالات وتعذيب دي ناس ماتت تحت والشيوعيين مكنوش شايلين سلاح»

«تجربة عبد الناصر كانت ضد أي تنظيم لأنه تصور باستمرار إن أي تنظيم هيبقى ضده، وكانت صافيناز كاظم دايما تقولي إزاي الشيوعيين يأيدوا عبد الناصر وهما في السجن في قرارات التأميم ، ومات لهم 12 واحد ضد التعذيب، دول عندهم حب تعذيب الذات، لكن بالنسبة للشيوعيين فده أنبل مثال لحب الوطن وإيثار المصلحة العامة»

حين تخرجت فريدة النقاش كان في أرشيفها العمل في مجلة الآداب وجريدة الجمهورية، وكانت ترى نفسها محظوظة، لأنها وجدت نفسها أمام عملين، مترجمة بوكالة أنباء الشرق الأوسط، والعمل كمذيعة، بعد أن نجحت في الاختبارات لكنها فضلت الأولى فغضب منها رجاء النقاش، لكنها أصرت على ذلك، وبجانب عملها ثلاث سنوات في الوكالة الرسمية، ظلت تكتب في المجلات، سواء في الناحية الثقافية أو السياسة»

في تلك الفترة أيضًا تم التعارف على شريك العمر الكاتب الصحفي حسين عبد الرازق «عرفته عام 1962، وتزوجنا في 64، وأنجبنا ابنتنا رشا في 65، ثم ابننا جاسر في الجزائر عام 69، ولا يمكن تلخيص كل ذلك بآلاف الكلمات لكنه كان بداية تغيير حياتي وأصبحت امرأة متزوجة».
Advertisements
الجريدة الرسمية