رئيس التحرير
عصام كامل

"كفيف القرية المريمية".. قصة العم روماني الذي اكتفى بنور القلب والبصيرة (فيديو وصور)

فيتو

في أحد الدروب الضيقة، بتلك القرية الصعيدية التي يطلق عليها الأهالي اسم "قرية المحبة والسلام.. تسكنها روح العذراء مريم.. القرية المريمية"، تدق الساعة السادسة صباحًا.. فينزل ذلك الرجل سبعيني العمر، مرتديًا جلبابه الصعيدي، واضعًا العمامة البيضاء على رأسه، متكئًا على مدخل دكان خشبي، يطلق عليه "بنك"، حيث يقوم بترتيب بضاعته.


يأتي الزبائن من كل حدب للشراء منه، منادينه: "يا عم روماني، عاوزين سكر وشاي".. بالنظر إلى ذلك الرجل لا تتخيل أبدًا أنه فاقد البصر.. يأتي إليك بما تسعى لشرائه، ويقف في محله الذي لا يتعدى الأربعة أركان، يحمل في قلبه نور البصيرة، قائلا: "كفاية قلبي فيه نور".

"فيتو" زارت قرية "السلامية" التابعة لمركزي دشنا كنسيًا، ونجع حمادي إداريًا، حيث يعيش العم روماني ملقأ إبراهيم، الذي فقد البصر في عمر الثلاثين عامًا تقريبًا بعد إصابة عينيه.. التفاصيل يسردها لنا الجد روماني والأحفاد.

ركن الضلمة
يقول العم روماني: أعيش في ظلام منذ عام 1985 بعد إصابتي بمرض وارتفاع في درجة الحرارة، وعلى أثرها فقدت بصري، وعاشت زوجتي وأبنائي الستة معي حيث لديَّ 3 بنات و3 صبيان وجميعهم متزوجون وليد نحو 15 حفيدًا، في ذلك المنزل المتواضع، ووقتها كنت أمتلك هذا الدكان "بقالة"، الذي قمت بإنشائه في عام 1970، وهو يعد أقدم محل بقالة بالقرية، بعد أن تركت المدرسة الابتدائية دون استكمال دراستي نظرًا للظروف الصعبة التي كنا نمر بها.

وأشار العم روماني إلى أن الحياة رغم قسوتها وصعوبتها في تلك الفترة، إلا أن هذا الأمر لم يقف عائقًا في حياتي، وأكملت حياتي واستطعت تمييز كل شيء حتى لا أحتاج إلى أي شخص إلا في الضرورة القصوي، حتى الحركة داخل الدكان حفظت خطواتها، واتجاه كل سلعة بحسب وضعها في المكان المخصص لها.

من غير نور

وأضاف العم روماني إلى أنه لا يضيء محله ليلًا، قائلا: "هي كدة كدة ضلمة.. والزباين في القرية مسلمين ومسيحيين اتعودوا عليه كدة"، لافتًا إلى أنه سعى لتعليم أبنائه، والبعض منهم حصل على شهادات مختلفة، ولكنهم لم يلتحقوا بوظائف، بل امتهنوا أعمالًا حرة، فمنهم الميكانيكي وبائع الأحذية وغيرها.. ولكنهم حرصوا على تعليم أبنائهم حتى يصلوا إلى شهادات عالية رغم قسوة الظروف.

واستطرد قائلا: "هنا مدينة السلام.. محدش يقدر يزعل حد.. وعمر ماحد سأل مسلم ومسيحي.. وكلهم هنا بيحبوني ويساعدوني، ومنذ أن فقدت بصري، ولم يتبدل الحال كثيرًا مع الزبائن على العكس.. كثيرًا منهم يستغرب كيف أجيد البيع والشراء، وأستطيع معرفة الشخص الموجود أمامي، وأعطيه ما يريد".

نور القلب
وأكمل حديثه لـــ "فيتو"، قائلًا: "باعرف أفرق الفلوس من بعضها، ولا يستطيع أحد أن يضحك عليَّ، فالنقود أعرفه من حجم كف يدي، وعندما يأتي إلى شخص، ويحاول أن يعطيني نقودًا مزورة أفركها لأعرف صحتها، وهذا حدث مع أحد الأشخاص القادمين من قرية معروفة بالإجرام، واستطعت كشف النقود المزورة، ورغم أنهم نجحوا في خداع أحد الباعة الآخرين في القرية، وحصلوا منه على مشتريات، وأعطوه فلوسهم المزورة".

يقول: نور القلب أو البصيرة أفضل حيث يمنحه الرب لنا، عندما يأخذ البصر يعوضنا عنه بالكثير، قائلا: "الشكر للرب على نعمة البصيرة.. نور القلب".

فقد الزوجة
ويعرض العم روماني مأساة فراق رفيقة الدرب، منذ نحو ست سنوات، ورغم المعاناة إلا أنه لم يفقد إيمانه، وظل على نفس النهج، قائلًا: "زوجات أبنائي وبناتي يعدون لي الطعام، ولكن في بعض الأحيان أقوم بذلك.. ولكن في محلي أقوم بعمل وترتيب كل شيء".

وتابع: أقوم برص كل بضاعتي بعد غلق المحل، وأطلب من الموزع أن يضع لي البضاعة خارج المحل لأقوم أنا بوضعها في المكان المخصص بنفسي، حتى أعرف مكانها وأميز كل سلعة برائحتها، وأتعامل مع الأطفال بكل محبة، وهم يسعدون بي، ورغم أن معاملة الأطفال من أصعب المعاملات إلا أني أجد فرحة وسعادة كبيرة معهم عندما ينادونني.

الأحفاد
قال جرجس ثروت، الحفيد الأول له: إن جده ورث هذه المهنة عن أبائه وأجداده، منوهًا إلى أنه يعرف الزبائن من أصواتهم، ويميز بينها، حتى في حالة غياب أحدهم، أو تغير صوته لمرض أو بحة، لافتًا إلى أن جده يستيقظ مبكرًا، ويغلق أبواب المحل في نحو الثانية عشرة مساءً، ويستمر في رصِّ بضاعته حتى الفجر، ويكمل هكذا، ولا يطلب منا شيئًا سوى ما لا يستطيع القدرة عليه، وهو المشي لمسافات طويلة نظرًا لإصابة قدمه.


شقيقان كفيفان بقنا أحدهما قال «نعم» والآخر صوت بـ «لا» (فيديو)

وأعرب مرقس طلعت، أصغر الأحفاد، عن حبه الشديد لجده وفخره به في كل مكان، قائلًا: هذا الرجل عانى كثيرًا، ومر بالعديد من الصعوبات في حياته، ورغم ذلك لم يستسلم، ورفض أن تكون النهاية، بل في كل مرحلة يبدأ من جديد، وكأنه طفل صغير وقلبه شاب، لم توهنه علامات الشيب ولم ترتسم التجاعيد على وجهه البسيط المملوء بالحب.
الجريدة الرسمية