رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

خالد جيلانى يكتب: العقاد ومي زيادة.. الحب العذري

العقاد ومي زيادة
العقاد ومي زيادة

سنحاول في هذا المقال أن نلقى بصيصًا من الضوء على جانب مهم من جوانب شخصية "العقاد"، وهو الجانب العاطفى، وتحديدا علاقته بـ "مي زيادة"، فـ "العقاد" شخصية ثرية تحتاج إلى مجلدات للإحاطة بكل جوانبها، ويمكن القول بكل ثقة؛ إنه لم يعرف الفكر العربى رجلا من هذا الطراز الذي يفرض شخصيته ومنحى وجوده على أوساط الفكر والأدب مثل "العقاد".


ولد "عباس محمود إبراهيم مصطفى العقاد" في مدينة أسوان في 28 يونيو عام 1889 ومات بمنزله ١٣ من شارع شفيق غبريال بمصر الجديدة في 12 مارس 1964.

أبوه هو "محمود إبراهيم مصطفى العقاد"، كان يعمل موظفا بمدينة المحلة، ثم معاونا بإدارة مدينة أسوان، ثم أمينا للمحفوظات، وتوفي عام 1907، وأمه هي "زنوبة محمد أغا الشريف"، وهى حفيدة رجل من رجال الفرقة الكردية في جيش "محمد على".

والعقاد، كما يصفه الدكتور "شوقى ضيف" في كتابه (مع العقاد)، "مديد القامة، مستطيل الوجه والرأس، غزير الشعر والشارب، منبسط الجبهة، ثاقب العينين، أشم الأنف، أشدق الفم، بارز الذقن في استعراض، جهير الصوت، تلوح محياه سمرة النيل، وتحف به مهابة ممزوجة بغير قليل من ملامح البأس والصلابة والقوة".

كان "العقاد" منظما دقيقا في حياته، فهو يستيقظ في الخامسة صباحا، ويفطر في السابعة، ويتصفح الجرائد والمجلات، حتى إذا كانت الثامنة شرع في كتابة بعض مؤلفاته لنحو ساعتين يخلد بعدها إلى الراحة قليلا، وكان في فصل الشتاء يفضل قضاء هذه الراحة في التجول في شوارع مصر الجديدة القريبة من منزله، وفى المساء كان يكتب مقالاته الصحفية، وكان يقضي الليل في القراءة الدائبة، وظلت حياته تجري على هذه الوتيرة، وهذا النظام حتى وفاته.

و"العقاد"، الذي عاش كالنجم المتلألئ، شهرة ومكانة، كانت حياته العاطفية مليئة بالمغامرات والمشاغبات، فهو كما ذكر المرحوم "عامر العقاد" في كتابه (غراميات العقاد)، قد أحب أربع نساء، هن: "سارة"، و"أليس" وهى فتاة لبنانية، و"مي زيادة" الكاتبة والأديبة الشهيرة، والرابعة هي السمراء الصغيرة وهى فنانة معروفة، غير أن العقاد العاشق اكتوى بنار الحب، وذاق لوعته فقد هجرته "أليس" الشقراء، وخانته "سارة" بعلاقاتها المتعددة بالرجال، ثم هجرته الفنانة السمراء الفارعة القوام، وصارحته بأنها لا تريده إلا عشيقا مثل غيره من الرجال.

وبسبب هذا الاكتواء، وهذا الغدر، هرب "العقاد" إلى الفلسفة، ومحاولات التسامي الرومانتيكى، فقد وصف الحب قائلا: "فيه من حنان الأبوة، ومن مودة الصديق، ومن يقظة الساهر، ومن ضلال الحالم، ومن الصدق والوهم، ومن الأثرة والإيثار، ومن المشيئة والاضطرار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط، ومن اللذة والعذاب، ومن البراءة والإثم، ومن الفرد الواحد، ومن الزوجين المتقابلين، والمجتمع المتعدد، والنوع الإنساني الخالد على مدى الأجيال"..

"يسألونك عن الحب قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح ويسألونك عن الروح فماذا تقول؟.. قل هي من أمر ربي.. خالق الأرواح.. لهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان.. وخلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار، ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت!!".

ويقول أيضا في أنواع الحب: "عرفـــت من الحــب أشــكاله وصاحبت بعد الجمال الجمال فحـب المصـــور تمـثالـه عرفت.. وحب الشباب الخيال وحــب التـي علمتنـي الهــوي وحــب التــــي أنـا علمتـها ومن أســـتمد لديهــا القـــوى، ومن بالقــــوي أنـــا أمددتــها".

وكانت الكاتبة والأديبة "مي زيادة" هي المرأة الأولى في حياة العقاد، و"مي زيادة" هي بنت الناصرة شمالي فلسطين التي تركتها طفلة متوجهة وأسرتها إلى لبنان، حتى صارت شابة جميلة لتكون القاهرة مقرها الأخير، ومنها عرفها المثقفون والنخبة وعاشوا في صالونها الأدبي الذي كان يعقد يوم الثلاثاء من كل أسبوع..

ومن هؤلاء المثقفين من أحبها وكتب فيها شعرًا وغزلًا، وأرسل لها ما يكنه قلبه لها ليتلقى هو الآخر ردها الذي يحتفظ به التاريخ كتراثٍ ثقافيٍ وأدبيٍ في علم رسائل الغرام.. وإذا كان هناك من أحبها، وذاب فيها عشقًا حياة وقولا، أيضا هناك من لم يجرؤ حتى بمصارحتها خوفًا من أن يكون مصيره عدم التأنس برؤيتها في صالونها الأدبي..

و"مي زيادة"، لم تكن مجرد شاعرة ومثقفة وأديبة، ولكن أيقونة متحركة من الجمال، حتى إن همسات دارت هنا وهناك عمن كان يهيم بها عشقًا بخياله، لكنها اشتهرت بقصة حبها الأسطورية مع الشاعر "جبران خليل جبران"، طوال 20 عاما كانا يتبادلان فيها الرسائل، ولم يلتقيا أبدا.

كانت "مي" فتاة جميلة، وصفها الشاعر الكبير الراحل "كامل الشناوي" في كتابه "الذين أحبوا مي"، قائلًا: "لم تكن قصيرة ولم تكن طويلة.. كان قوامها نحيلًا يريد أن يمتلئ، سمينًا يريد أن ينحل!!..".

وقد وصفت "مي زيادة" نفسها في إحدى رسائلها لصديقتها قائلة: "استحضري فتاة سمراء كالبن أو كالتمر الهندي كما يقول الشعراء أو كالمسك كما يقول "متيم العامرية"، وضعي عليها طابعًا سديميًا (وليسمح لي البلاغيون بهذا التعبير المتناقض) من وجد وشوق وذهول وجوع فكري لا يكتفي، وعطش روحي لا يرتوي، يرافق أولئك جميعًا استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد أكبر للشجن والألم، وأطلقي على هذا المجموع اسم (مي)!!.

ومن الذين باحوا بحبهم لها أديبنا الكبير "عباس محمود العقاد"، فرسائله لـ "مي" تؤكد أن الحب جمع بينهما وعصف بقلبيهما، كما أشارت كتاباته وقتها إلى عبارات الشوق والحنان والحب والأمل، فـ "العقاد" أول من حظي بفرصة الخروج مع "مي"، فقد دعاها للسينما فقبلت دعوته بعد قبول شرطةا بالذهاب إلى سينما الكنيسة، وكانت هذه أول مرة تخرج فيها "مي" بصحبة صديق لها وتقضي معه وقتا في السينما.

ونال "العقاد" من "مي زيادة" ما لم ينله غيره فهي عرفت بشح قبلاتها لمن أحبوها، ولكن "العقاد" نال قبلة على جبينها أو قبلة على جبينه، ويعترف "العقاد" نفسه بأن "مي زيادة" لم تحب جانب السياسة والعنف في شخصيته، فهي أحبت "العقاد" الأديب، الكاتب، الشاعر، ولم تكن تحب "العقاد" السياسي، وحاولت أن تقنعه بترك الكتابة في السياسة خشية عواقب عنف حملاته على الحكومة وخصومه وأن يجره هذا للسجن، وكثيرا ما رجته، في أسلوب رقيق، أن يخفف من حدته، وألا يهاجم خصومه حتى لا يلقوا به في السجن، وتتعرض حياته للخطر.

وعن حب "العقاد" لـ "مي زيادة" يقول الكاتب الكبير مصطفى أمين في كتابه (أسماء لا تموت ): "كان الشاب الأسمر العملاق يعاملها أحيانًا كملكة، ويتغزل فيها، ويتغني بهواها، ثم فجأة يثور عليها، ويخلعها من عرش الحب الذي تستوي عليه، ثم يعود إليها أكثر عشقًا وأكثر غرامًا، وكانت "مي" تحب هذا الشاعر الذي يحترق ويحرقها، ويحبها ويلعنها، ويتعبد بها ثم يكفر، ويقبل عليها، ثم يدبر..

وكانت "مي" تقول لصديقاتها: إن "العقاد" سريع الرضا وسريع الغضب.. يقدم لها وردة في الصباح، ويلقي عليها طوبة في المساء، وكانت تُسمي حبه (الحب المتعب)، ولم يكن العقاد يكره الكاتبة "مي" في يوم من الأيام، فقد كانت كراهيته هي قمة العشق، وكان "العقاد" يغار على "مي" من كل المحيطين بها، وكان يقول لها: إن قلبك مثل نادي محمد على لكثرة ما يتردد عليه من عظماء!!..

وكانت "مي" تتعمد، أحيانًا، إثارة غيرته عليها، ولذا كتبت إليه ذات يوم تقول: "قد أتعمد الخطأ أحيانًا لأفوز بسخطك عليَّ، فأتوب على يديك وأمتثل لأمرك.. في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك".

وكتب القدر نهاية هذه العلاقة، فقد سقطت "مى زيادة" فريسة للمرض، بعد وفاة والدها عام 1929 فأصيبت بالاكتئاب الشديد، وهو ما أثر على صحتها تأثيرا خطيرا، ووصف الأستاذ "عامر العقاد" في كتابه (غراميات العقاد) مأساة مرضها قائلًا: "وأطمعت تلك المأساة وفاة والدها البعض فيها، فعانت شقاء هذا الطمع، وصاروا يلاحقونها في كل حين حتى ضاقت بهم، وضاقت بالدنيا وسئمت الحياة، وأصيبت "مي" بانهيار عصبي.
 وعبَّر "العقاد" عن حالة محبوبته في ديوانه (أعاصير مغرب) بقوله:

أتراها بعد فقد الأبوين..
"سلمت في الدهر من شجووين
وأسى يظلمها ظلم الحسين
ينطوي في الصمت عن سمع وعين
ويذيب القلب كالشمع المذاب".

ودخلت "مي" مستشفى العصفورية للأمراض النفسية والعصبية بلبنان، ومكثت فيه حتى فارقت الحياة في عام 1941، ورثاها "العقاد" بقوله:

أين في المَحْفَل مي ياصحابْ؟
عودتنا هاهنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مُسْتَجيب حِين يُدْعي مُستجاب
أين في المحفل مي يا صحاب؟
سائلوا النخبة من رهط النديّ
أين مي ؟ هل علمتم أين مي؟
الحديث الحلو واللحن الشجي
والجبين الحر والوجه السني
أين ولي كوكباه ؟ أين غاب ؟
شيم غرّ رضيات عِذاب
وحجي ينفذ بالرأي الصواب
وذكاء ألمعي كالشهاب
وجمال قدسي لا يُعاب
كل هذا في التراب ؟!..
آه من هذا التراب !!..))
****************
المصادر
1- كتاب (مع العقاد) للدكتور شوقى ضيف
2- كتاب (غراميات العقاد) الأستاذ عامر العقاد
3- كتاب (أسماء لا تموت) للمرحوم مصطفى أمين
4- كتاب (في صحبة العقاد) محمد طاهر الجبلاوي

Advertisements
الجريدة الرسمية