رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

«عندما تصرخ البراءة».. قطعة حديدية تشق رأس ابنة بائع الشاي بمحيط معهد الأورام

فيتو

استيقظت من نومها في تمام العاشرة والربع من مساء الأحد الماضي، تقلبت بجسدها الصغير فوق السرير فلم تجد والدها بجوارها، صرخت على الأخت الكبرى "نادية": "وديني لأبويا عند الجنينة"، بكاء متواصل ورغبة ملحة وحماس يليق بطفلة لم يتعد عمرها الأربعة أعوام.


أصرت "رقية" على أن تكون رفقة الأب "محمد زكريا"، بائع الشاي في مدخل شارع قصر المختار بحي المنيل في القاهرة، تريد أن تبقى هذه الليلة تحديدا بجانبه، كأنها تساق إلى قدرها، انتقلت "رقية" مع "نادية" إلى محل عمل الوالد في مدخل الشارع، لمرافقته في ساعات عمله المتأخرة، ليقع الانفجار الضخم الذي هز أرجاء معهد الأورام ليلة الأحد الماضي، وتقفز قطعة حديد من إحدى السيارات المتضررة، تعبر مياه النيل، لتستقر في رأس الصغيرة.


"كنت قاعد عند ناصبة الشاي بتاعتي في الحديقة المواجهة لفرع النيل من الناحية اللي قصاد المعهد لكن على البر التاني، كنت بجهز فنجانين قهوة لزباين وبشرب الشاي مع صاحبي، جت رقية قالتلي يا بابا هقد معاك، قولتلها تروح على مملكتها الكنبة الصغيرة اللي جنب الناصبة هي بتحب تنام عليها دايما لما تيجي معايا الشغل بالليل"، يربت محمد على رأس الصغيرة الذي تطوقه شريطة بيضاء تحمل أثر عملية جراحية تعرضت لها الطفلة جراء إصابتها يوم الحادث، يتحدث عن نصف ساعة فقط الفيصل بين ابتسامة كانت مرتسمة على وجه الصغيرة وقت التقت والدها، وصراخ كاد يشق صدره بينما يحاول هو دفن رأس الابنة المصابة بين يديه، عساها تكف عن جلب المزيد من الدماء: "في أقل من الثانية لقيت النار حواليا، كأن الحريق في البر عندي مش التاني، أصيبت بالعمى لثواني".


بدأ محمد يستفيق من واقع الصدمة، تدارك الأمر سريعا، تذكر الصغيرة ذات الجسد النحيل والبشرة السمراء النائمة رفقة ملاكها الحارس فوق الكنبة العتيقة الملحقة بناصبة الشاي خاصته: "صرخت رقية بنتي جريت عليها، خبيتها في حضني علشان كانت بتصرخ وبتنادي عليا وأنا بطمنها أقول لها أنا جنبك متخافيش يا بابا"، لثوان قليلة ظلت رأس رقية مزروعة في صدر الأب كأنه يشعر بأنه إذا رفع وجهها لأعلى سيلتقي والحقيقة التي لا مفر منها، سيدرك بأن ثمة قطعة حديدية ألقتها شدة الانفجار من البر الآخر: "لقيت أيدي كلها دم كنت خايف أرفع راسها، أخيرا رفعتها لقيت حديدة من باب عربية مرمية جنبها على الكنبة وهي وشها كله دم الجرح على شكل هلال بالضبط".


كانت أهوال حريق محيط معهد الأورام مازالت تدوي أصداؤها في الجهة المقابلة، بينما يصارع "محمد" الموت حتى لا يخطف "آخر العنقود" وفتاته المدللة: "ركبنا موتوسيكل صاحبي وجرينا على قصر العيني، قولت لهم بنتي انجرحت من الانفجار أنقذوها النزيف شغال بقاله أكثر من نص ساعة متواصل وهي جسمها هزيل وضعيف مش هتتحمل تنزف كل الدم ده"، كان محمد بائع الشاي أول من وصل إلى المستشفى من أسر مصابي الحادث.


نحو خمس ساعات قضتهم الصغيرة "رقية" في غرفة العمليات، محاولات عدة لإغلاق الجرح الغائر وسط خيوط شعرها البني: "خيطوا برة رأسها وجوة الدكتور قالي لازم تدخل جراحي لأن الجرح مش سطحي وهي صغيرة مش هتتحمل مضاعفات ممكن تحصل"، كانت الأم التي جاءت من محل سكنها الخاص والأختين في الخارج ينتظرن كلمة واحدة يخرج بها الطبيب تثلج صدروهن، يخبرهن بأنها بخير وستنجو من هذا المصاب، ستعود إلى مملكتها الصغيرة في حديقة شارع قصر المختار مرة أخرى: "روحنا بيها بعد الفجر وفضلت مدة كبيرة متأثرة ومش حاسة بينا خفنا تحصل لها مضاعفات أكثر من ذلك".

انفصل والدا رقية منذ نحو عامين، وتركت الأم مسئولية رقية وأختيها على كاهل الزوج، اتخذت مكانا آخر محل سكن لها، تأتي كل فترة لزيارتهن، إلا أن العلاقة بين محمد ورقية ظلت متخذة طابعها الخاص: "رقية دي روحي اللي ساكنة في جسم تاني، دي لو صحيت ملقتنيش جنبها تتجنن متواجدة معايا الـ٢٤ ساعة مبتفارقنيش، أنا تأكدت إنه ربنا بيحبني لما مخدهاش مني ونجاها برحمته عليا"، يقبل الأب رأس الصغيرة المصاب ويمسح عليه برفق، يجول بعينيه في منزله المتواضع بجوار مسجد قايتباي في حي المنيل، كأنه يتساءل لماذا أراد الخراب أن يترك بصمته في هذا المنزل الصغير!.
Advertisements
الجريدة الرسمية