رئيس التحرير
عصام كامل

قصة أول مصحف مطبوع.. محمد علي باشا صاحب الفكرة.. علماء الأزهر يعارضون الأمر ويفتون بالتحريم.. 1832 بداية الانفراجة.. واقتصار توزيع النسخ على المعاهد والمدارس

أول مصحف مطبوع _
أول مصحف مطبوع _ أرشيفية

عبر سنوات طويلة، وخلال أزمنة مختلفة، مرت طباعة المصحف الشريف في مصر بمراحل صعبة، كان أخطرها رفض علماء الأزهر الشريف في عهد محمد على باشا طباعته وتحريمها، ومن طباعة عدد محدود من المصاحف، وتوزيعه على طلاب المدارس، وصولا إلى رواج المصحف ووجوده في كل بيت رحلة طويلة نرصد فصولا منها في السطور التالية


البداية
في مصر لم تُعرف الطباعة إلا في فترة الاحتلال الفرنسي 1798-1801، فأتيح للمرة الأولى نشر الكتب بآلة، وأمكن الاستغناء عن «النُساخ»، ولذلك كانت صناعة الطباعة من الأشياء التي أثارت دهشة الشعب المصري، وأعجب بها الكثيرون من المشايخ وأعضاء الديوان والمثقفين، ورحلت المطبعة مع الحملة، وظلت مصر لا تعرف الطباعة حتى العام 1822، حينما أراد محمد على باشا إحداث نهضة بالبلد في التخصصات والمجالات المتنوعة.

بداية الفكرة
أما فكرة طبع القرآن الكريم فلم تخطر ببال محمد على باشا منذ البداية، وعندما فكر في ذلك وجد معارضة من علماء الأزهر، وظل الأمر محرمًا بمقتضى فتوى، وكذلك جرى تحريم طبع الكتب الدينية، بناء على عدة حجج، منها أن مواد الطباعة منافية للطهارة، وعدم جواز ضغط آيات الله بالآلات الحديدية، واحتمال وقوع خطأ في طبع القرآن، وهذه المعارضة كانت أمرًا طبيعيًا أقرته ظروف وطبيعة الحياة في ذلك العصر، فالطباعة فن جديد، ولم يكن العلماء عرفوا ماهيته بالضبط، إضافة إلى أنهم اعتادوا كسب قوتهم من نسخ الكتب.

وفي العام 1832 أمر محمد على باشا بطبع أجزاء من المصحف لتلاميذ المدارس، ثم صدر أمر إلى مدير مطبعة بولاق بطبع المصحف، وأمر الشيخ التميمي، مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت بوضع خاتمة على المصحف ليكون بيعه وتداوله أمرًا مشروعًا.

وتم توزيع المصحف المطبوع على المدارس والأزهر الشريف، واستمر ذلك حتى وفاة محمد على، ولذا يعتبر مصحف محمد على أول مصحف مصري مطبوع، وبلغت عنايته بالمصحف أن خصص جزءًا من مطبعة بولاق عُرف باسم مطبعة المصحف الشريف، واختار لها رئيسًا مستقلًا، وشغل تلك الوظيفة "عبد الرحمن أفندي" عام 1845م، ولكن في عهد الخديو عباس حلمي الأول، وجد علماء الأزهر أخطاء في مصحف محمد على، واستغلوا ضعف الخديو وعدم رغبته في النهضة والتطور، فلم يهتموا بتصحيح المصحف واستطاعوا إقناعه بمصادرة تلك المصاحف ومنع تداولها، فأصدر العام 1853 منشورًا بجمع المصاحف المطبوعة وتحريم تداولها، ومعاقبة من يخالف ذلك الأمر، كما أصدر أمرًا لمحافظ الإسكندرية في العام التالي بإعدام المطبوع من المصاحف.

تصحيح الأمور
ولكن تلك المصاحف تم تخزينها في مخازن ديوان الجهادية، وكان عددها 296 مصحفًا، وعندما أراد الخديو سعيد أن يوزع بعض المصاحف على تلاميذ المدرسة الحربية، سأل علماء الأزهر في ذلك، فأفتوا له بأنه يمكن تصحيح الأخطاء في المصاحف ثم توزيعها على التلاميذ، وفي عهد الملك فؤاد طُبِع المصحف مرة أخرى عام 1918 في المطبعة الأميرية، وقام على تصحيحه وتدقيقه الشيخ محمد خلف الحسيني، شيخ المقارئ المصرية، وحفني ناصف، المفتش الأول للغة العربية في وزارة المعارف العمومية، ومصطفى عناني المدرس بمدرسة المعلمين الناصرية، وأحمد الأسكندري، ونصر العادلي رئيس المصححين في المطبعة الأميرية تحت إشراف مشيخة الأزهر الشريف.

وتمت مراجعته في 1918، وتم جمعه وترتيبه في المطبعة الأميرية، وطبع في مصلحة المساحة عام 1924. وكانت هذه هي الطبعة الأولى، وسمي بالمصحف الملكي المصري، وجاء على أحسن وجه من حيث ترقيم الآيات، وعلى أساس علمي قويم، فقد اُتبعت في عد الآيات طريقة الكوفيين عن عبد الله بن حبيب السلمي عن على بن أبي طالب، وبحسب ما ورد في كتاب "ناظمة الزهر" للشاطبي وشرحها للشيخ رضوان المخللاتي، وكتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي، وكتاب البيان للشيخ محمد متولي.

عدد الآيات
وبحسب ما جاء في مؤلفات هؤلاء العلماء تم تحديد عدد آيات القرآن بـ 6236 آية، والدائرة المحلاة التي في جوفها رقم تدل على انتهاء الآية، وبرقمها على عدد تلك الآية من السورة، ويقع مصحف الملك فؤاد الأول في 826 صفحة، ولكن في عهد الملك فاروق، وجد علماء الأزهر أخطاء في المصاحف التي طُبعت في عهد أبيه، منها أخطاء في الرسم العثماني، وأخطاء في ضبط أواخر الكلمات في بعض السور القرآنية، وكذلك أخطاء في الوقوف، حيث وجد العلماء أن هناك أخطاء واضحة في أكثر من 800 موضع، ثم طُبعت نسخ أخرى وقام بمراجعتها الشيوخ المصححون أنفسهم، وبالتالي وقعوا في الأخطاء السابقة نفسها، بالإضافة إلى طباعة مصاحف أخرى في المطابع الأهلية، سواء كانت مطابع آلية أم حجرية على النسخة السابقة بمعرفة الشيخ محمد على خلف الحسيني، وبموافقة اللجنة المعينة بقرار الملك فؤاد الأول بكل ما فيها من أخطاء سابقة.

عهد فاروق
ولما تقرر إعادة طبع ذلك المصحف في عهد الملك فاروق، تألفت لجنة للمراجعة والتدقيق من الشيخ على محمد الضباع، شيخ المقاريء المصرية، والشيخ عبد الفتاح القاضي المشرف على معهد القراءات، ومحمد على النجار من كلية العلوم، والشيخ عبد الحليم بسيوني المراقب في الأزهر الشريف، فأتمت مراجعة المصحف وتصحيحه تحت إشراف مشيخة الأزهر، وراجع عملها الشيخ عبد الرحمن حسن وكيل الجامع الأزهر، وتم إعداد المصحف وطبعه بمصلحة المساحة، أما ترتيبه فتم في مطبعة دار الكتب المصرية، وكانت تلك الطبعة الثانية للمصحف الشريف، وصدرت العام 1371هـ/ 1952 وكانت أصح وأجمل الطبعات.

ثم توالت الطبعات في المطابع الأميرية وغيرها، وعرف بمصحف بولاق، أو المصحف الأميري، أو المصحف المصري، أو مصحف دار المساحة، أو مصحف دار الكتب، فهي مسميات لمصحف واحد، وهو الذي كتب حروفه الخطاط جعفر بك، وتمت كتابته وضبطه بما يوافق رواية حفص عن عاصم، وأُخذ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها الخليفة عثمان بن عفان إلى البصرة والكوفة والشام ومكة ومصحف المدينة المنورة ومصحفه.
الجريدة الرسمية