رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

"في فننا رسالة".. الإدمان وقضايا المرأة مشروع تخرج بقسم النحت في المنيا

فيتو

كادت دقات قلبه تخترق صدره من شدة سرعتها واضطرابها، ساعات قليلة تفصله عن اللحظة التي يقف فيها أمام سبعة من كبار الأكاديميين في مجال فن النحت المصري، فها هي الساعة تقترب من السادسة صباحا، صفير الصمت يدب في أرجاء ساحة الكلية، لم يتبق سواه وصديقه ورفيق سكنه خلال سنوات الكلية الخمس، "محمد ناجح"، يقف إسماعيل محمد أمام تمثاله الطيني الذي عكف على تشكيله لـ 18 يوم متواصة، رجل هزيل نحيف الوجه والجسد يمسك بخيط يعيق يديه عن الحركة، يحاول جاهدا تمزيقه، تشير الدلائل حوله بأنه تمثال لمدمن قابع في سريره بإحدى المصحات، "فكرة جديدة ومختلفة في فن النحت المصري، لكن لا يوجد مستحيل على دفعة قسم النحت 2019 بجامعة المنيا".



قبل نحو يومين من الآن، كالنار في الهشيم باتت تنتشر مجموعة صور لأربعة شباب من قسم "النحت الميداني" بكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا، يقفون بجوار أعمال فنية كل عمل منها، يعد فكرة ورسالة بذاتها، فهناك من أراد إيصال رسالته حتى لا يكون ما قدموه مجرد مشروع تخرج يمر على لجنة التحكيم بالكلية مرور الكرام فحسب، ولأن العمل الطيب عادة ما يخلف وراءه أثر طيب، انهالت عشرات بل آلاف الإعجابات والتعليقات على تلك الأعمال، وتيقنا جميعا أن فن النحت المصري ما زال يعبر عن ذاته بقوة، فهاهم شباب لم يتعد عمر الواحد منهم الـ 24 عاما، نجحوا في ترك رسالتهم في قلب المجتمع المصري، من خلال مجموعة تماثيل تحمل حُمرة الطين وروح الفنان الذي عبر عن ذاته خلالها، ما بين تمثال تجريدي لسيدة قابضة على قلبها رمزا للأنثي المصرية، ورجل مدمن يحاول التخلص من ثقل إدمانه، ومجموعة من متحدي الإعاقة يحاولون كسر هذا القيد، وتمثال رابع لجندي يحتضن بقوة طفلة صغيرة، تقبض على ظهره حتى تشعرك قبضتها أنها ستخرج عن صمتها وتصرخ صرختها الأخيرة، كرمز لمعاناة الأطفال في دول النزاعات والحروب.


البداية كانت في اليوم الذي تلا آخر أيام عيد الفطر المبارك، بعد أن أنهى الطلاب السبعة المختصون في شعبة النحت الميداني بالكلية، والنحت الميداني هو المختص بتشكيل التماثيل التي تُرى من الزوايا الأربع للرؤية، أو بزاوية 360 درجة، وعادة ما توضع في الميادين العامة والطرقات، لتتيح للمار تحديد هويتها من الجهة التي يسير عليها، انتهت اختبارات الكلية النظرية، وحُدد لهم 18 يوما فقط لإنجاز المشروع عمليا، وتطبيق ما تم دراسته على مدار خمس سنوات، في تمثال يتراوح طوله ما بين متر ونصف إلى مترين، "اضطرينا لضيق الوقت إننا نكثف الشغل بصورة أكبر كنت بروح الكلية كل يوم من 9 صباحا أبدأ شغلي على التمثال الساعة 10 وانتهي منه 9 مساء بشكل يومي، لدرجة إننا يوم التحكيم واللي وافق الإثنين الماضي مشينا من الكلية الساعة 6 صباحا كنا بنضع فيها آخر اللمسات"، يتحدث إٍسماعيل محمد صاحب مشروع التوعية بمخاطر الإدمان من خلال تمثاله الطيني للرجل ذي الوجه النحيل والجسد الهزيل وهو يحاول التحرر من قيد وضعه الأطباء على يديه، يجلس على سريره المليئ بعبارات كتبها هو عن أحلام وآمال أراد السعي نحوها لكن حال الإدمان دون ذلك.

"لما قالوا لنا كل واحد يحدد الفكرة اللي هيشتغل عليها، لم أتردد لحظة في اختيار الإدمان كرسالة وموضوع لمشروعي، كنت خايف لأنها فكرة جديدة على قسم النحت، لكن كنت متأكد من النجاح ونيل استحسان لجنة التحكيم والمصريين أيضا".


"سيدة نحيلة الجسد ذات ملامح تجريدية خالصة تقبض على صدرها موضع القلب بيد، والأخرى تطلقها في الريح، بينما يقف ببغاء على كتفها وكأنه يشاطرها معاناتها وأفراحها"، اختار "محمد ناجح" ابن بني مزار بالمنيا، أن يختار لها جسدا نحيلا متآكلا ليعبر عن الكيفية التي يمكن للدهر والشقاء والمسئولية أن يفعلوه بالمرأة التي وصفها محمد بأضعف الكائنات على وجه الأرض وأقواهم في الوقت ذاته، "الست دي مصنع الرجال والأبطال وكل المجتمع بالنسبة لي، لما عرضوا علينا إحنا اللي نحدد الأفكار اللي هنشتغل عليها أنا من سنة مهتم جدا بالمرأة وقضاياها يمكن لسبب شخصي لا أريد التحدث عنه، لكن اخترت تمثيل معاناة الست المصرية من خلال تمثال يعتمد على النحت التجريدي وليس الأكاديمي اللي بيقوم على التشريح وتحديد ملامح دقيقة للتمثال"، أراد محمد بذلك أن يترك الخيال مفتوحا للمشاهد ولجنة التحكيم فلم يحدد بدقة ملامح تلك السيدة فلا هي بالأم ولا الأخت ولا الزوجة ولكنها الكل معا!


عثرات ومشكلات واجهت محمد باعتبار مشروعه الأضخم بين المشروعات كافة، حيث أقامه على طول مترين كاملين، ما جعله أثناء التصميم يميل منه وينحرف عن المسار المحدد له سلفا، "كان باقي كام يوم على التحكيم وأنا مخلصتش كدت أنهي المشروع برمته واشتغل على فكرة أخرى، لكن إيماني بالفكرة والرسالة كان أكبر من قراراتي المتسرعة اتكلت على الله وكملت المشروع، ونال استحسان اللجنة لدرجة إن أحد المحكمين قال لي لو كان فيه تقدير أعلى من امتياز كنت أعطيته لك"، ما أراد محمد إيصاله من خلال مشروعه تحقق بالفعل وكل ما شاهد التمثال ترك فيه انطباعا خاصا يختلف عن الآخر، "فيه ناس شافتها مصر وعلى كتفها النسر، لكنه ببغاء واخترته تحديدا لأنه أكثر الطيور بهجة على الإطلاق وده الشيء اللي بتصنعه الست في أي بيت".



وعكف محمد الذي عشق وتولد شغفه بفن النحت منذ كان في الثانية عشرة من عمره، ليلة التحكيم على الجلوس عند قاعدة التمثال ومشاهدته من كافة الزوايا، كان يخشى أن يتركه لحظة أو تغفل عيناه عنه فينهار أو يختل توازنه كما حدث في أيام التصميم، هكذا كان بقية زملائه كلما تقترب الساعة من العاشرة صباحا موعد وصول المحكمين إلى قاعة التصميم لمشاهدة التمثال ومناقشة صاحبه فيه، كان الخوف من الفشل بعد جهد 18 يوما يسيطر على المشهد، بينما سيطر شعور آخر على إسماعيل: "مكنتش مستوعب إنه دي آخر ساعات ليا في الكلية اللي عشت فيها 5 سنوات وسط أصحابي يمكن أكثر من بقائي البيت، كان شعور مختلط وغريب، تكلل بنجاح كبير يمكن فاق توقعاتنا كلنا"، يتحدث إسماعيل الذي دفع به القدر إلى قسم النحت بعد أن أراد التصوير وحال التقدير العام دون تحقيق ذلك ليجد في النحت الفن الحقيقي.
Advertisements
الجريدة الرسمية