رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد ممدوح يكتب : أنصح نفسي وإياكم.. لا تكونوا مثل سيد كشري


كنت ومازلت من الجمهور المخلص جدا لمسلسل لن أعيش في جلباب أبي الذي يندرج لدي بجدول المخدرات المحبوبة، وهي تلك الأشياء التي لا تسلاها حتى ولو بالمنع والتضييق، رغم أنك لا تعاشرها بالتدخين أو بـ"البلبعة"، فهذا المسلسل بسيط التركيبة الذي يروي قصة معتادة عن رجل عصامي صعد من القاع إلى القمة، نجح في أن يصبح مسلسل الأجيال باقتدار، والأكثر عرضا على الشاشات خلال العقدين الأخيرين، بسبب تهافت المشاهدين على تتبعه بين القنوات الفضائية، وإن لم نجده تابعنا حلقاته على اليوتيوب بنهم، فمشهد زفاف سنية لا يفوت مهما كانت المشاغل، ويوم انهيار مخزن الخردة على عبد الغفور يحمل إثارة متجددة لا تنتهي، رغم عرضه للمره الألف بعد المليون، لكن لو سألتني بشكل شخصي فإن مشاهد الحاجة عبلة كامل في المسلسل بالكامل لا يجب أن تفوتك، سواء كنت مشاهدا عاديا أو ممثلا ترغب في مشاهدة نموذج في القدرة على الأداء والتعبير عن الشخصية بسهولة وحرفية شديدة.


المهم.. من خلال المشاهدة المتكررة للمسلسل اكتشفت أن شخصية سيد كشري التي جسدها الفنان القدير الراحل مخلص البحيري، هي أكثر ما يشعل الأفكار في رأسي، والحقيقة أن نموذج سيد كشري في الواقع هو ما يشغلني وليس الشخصية التي أضافها مصطفى محرم لأحداث الرواية الأصلية، فالرجل صاحب صنعة، ويبدو من تعامل المحيطين به في الحلقات الأولى من المسلسل مهارته وتفوقه في ضبط مكونات الكشري المعقدة، لكنه يترك كل ذلك ليعمل تابعا لزوج شقيقته الذي كان يتسول منه الكشري قبل شهور!!!!

لماذا قبل سيد أن يترك مهنته التي كان من الممكن أن يذهب بها بعيدا، ويصبح في يوم من الأيام سيد حنفي بدلا من سيد كشري، لماذا ارتضى بالوظيفة والتبعية فقط ورفض أن يطور مهنة ربما تجعله يناطح الحاج عبد الغفور في الثروة والمكانة.

كشري لم يكن تابعا للحاج عبد الغفور البرعي فقط، بل استسلم لاختيار شقيقته زوجة الحاج الكبير ذي الهالة العظيمة، فاختارت له زوجه خلق النكد ليقترن باسمها وليس العكس، وقبل الرجل رغم علمه إنها مطلقة وتكبره في السن ومعروف عنها ضربها للرجال، تزوجها وعاش في مستنقع من النكد الخالص المغلف بالاستفزاز الدائم من امرأة تطمع في مال الحاج عبده خردة، كما لقبته سهير البارودي في إحدى الحلقات، وترغب أن تضمن جزءا منها بزيجات عائلية بين أبنائها وأبنائه، وحتى في هذه كان سيد سلبيا جدا لا شارك زوجته طموحها ولا رفض بل ظل متفرجا ينتظر ما ستؤول له الأمور في النهاية، ليرسم ضحكة بلهاء ويبارك ويهنأ ويطلق صيحته المعتادة " ينصر دينك يا حاج عبد الغفور".

سيد كشري هو نموذج لغالبية الشعب المصري في وجهة نظري، وإن كان هناك منهم من يظن في نفسه عكس ذلك، فبذور سيد بداخلهم خاملة ويمكن أن تنبت في أي وقت، الرغبة في الاستقرار والراتب المتوسط الذي يمنحنا حياة مستورة جيدة نعيشها حتى الموت بلا شكوى أو تطلع، وهو أمر وإن كان ينظر له معتنقوه بأنه المعنى الحقيقي للرضا، لكنه في الواقع نتاج أنظمة سياسية واقتصادية سابقة، حولت المصريين إلى تابعين للحكومة، ومنتظرين للراتب منها بشكل مباشر أو غير مباشر، والدليل الأمثلة الشعبية التي عظمت من قيمة الوظيفة الحكومية فجعلتها هدفا، وبعد أن ظهر القطاع الخاص أصبحت الوظيفة فيه هدفا بديلا عن الحكومة التي ينظر إلى التعيين بها حتى الآن ككنز يستحق العناء.

الأيام الماضية حملت معها أحداثا غريبة فيما يتعلق بتواجد السوريين في مصر، ومن خلال المتابعة للأحاديث المتبادلة حول تقييم تجربة أبناء الشام في مصر، بعد هروبهم من ويلات الدمار والحرب، لفت نظري بعض الآراء التي فندت نجاح السوريين، وأرجعته إلى طبيعة المواطن السوري التاجر بطيبعته، والراغب في العمل الحر أكثر من الوظيفة، وأن هذا هو الفارق بين السوري والمصري، الأول يسعى لبناء كيان مستقل أشبه بعبد الغفور البرعي، والثاني عبأت رأسه منذ الصغر بأكليشيهات على غرار " بإذن الله تخلص كلية وتلاقي وظيفة حلوة وتتجوز بنت الحلال" وهو ربط عجيب عند تأمله تجد أن مراحل حياتك العملية تم تحديدها قبل أن تبدأ، فالوظيفة مرتبطة بالكلية والعكس، والزواج مرتبط بوجودهما، والواقع أن هذا الفكر أخرج طوابير من الموظفين لا تنتهي، ترتكن إلى العمل لدى الغير دون التفكير في العمل الحر الذي يضيف للاقتصاد في النهاية.

وبعيدا عن المقارنات، فإن شعور انتظار الراتب فيه من الإذلال ما تتأكل معه إنسانية الفرد، ويدفعه إلى الغضب من المجتمع والكسل والخمول ،لأن الرواتب في مصر لا تتغير كثيرا، ولا يمكنك تطويرها بسهولة أو ضمان استمرارها، لكن يمكن أن تضمن زيادة دخلك إن امتهنت العمل الحر، حيث يتعلق الأمر كله بك أنت فقط وليس بمدير ومحاسب وصراف وبنك وسلسلة لا تنتهي من التحكم بك، لذلط فالحل أن تكون عبد الغفور البرعي أو حتى الريس مرسي فكل المصائر أفضل من مصير كشري.
Advertisements
الجريدة الرسمية