رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد ممدوح يكتب: ضحكة كاريوكا.. وأسطورة الراقصة الشريفة


لست من المتابعين بشكل دقيق لفن الأدب، لكني بكل تأكيد أدرك أن كاتبا ما منذ عقود هو من ابتكر فكرة أن الراقصة أكثر شرفا من أغلبنا، وهي "تيمة" أزعجنا بها صناع السينما خلال 60 عاما وتحولت بفعل "الزن على الودان" إلى شبه قاعدة عند تحليل موقف أي راقصة من مهنتها بموجب مبدأ الحلال والحرام.


نفس الفكرة تردد في مجالس المثقفين أو مدعيها وتقارن بين الراقصة والمسئول الفاسد أو المتدين المتشدد وتنصف الراقصة وتزيلها من خانة الحرام على حساب هؤلاء، بمبررات تجعل مهنة الراقصة مقبولة عن مفسدات أخرى خاصة إذا كانت تمارس مهنتها على طريقة من البيت للكباريه ومن الكباريه للبيت كزوجة المعلم ميمو في مسرحية أنا وهو وهي لفؤاد المهندس. 

توغلت الفكرة في الأذهان ومع تناميها دون مواجهة حقيقية وتردي الأوضاع قاطبة خلال العقود الأربعة الأخيرة، تطور دور الراقصة في المجتمع من فنانة قد يكون لها دور سياسي أو اجتماعي على الهامش إلى سيدة أعمال وصاحبة حسابات بنكية بالملايين "بره وجوه".

وسواء كانت متابعة الرقص تتعلق بمحبة الفن للفن ذاته أو حب جسد الراقصة بكل تجرد من المعاني الفلسفية، فأنا لا أدعي الورع والاستشياخ، فرغم عدم اهتمامي بالرقص الشرقي كفن إلا أني لا أخفي محبتي الزائدة للفنانة الموهوبة المرحومة بإذن الله نعيمة عاكف المصرية وربما العربية وقد تكون الأفريقية الوحيدة التي رقصت على مسرح البولشوي في موسكو ليس مرة واحدة بل مرتين، فكل ما قدمته سواء من أفلام أو رقصات هو من المفضل لدى بكل تأكيد.

وبعيدا عن المرحومة نعيمة عاكف فإن المكانة الكبيرة التي وصلت لها مهنة الراقصة في مجتمعنا خلال العقود الأخيرة تثير الحيرة واليأس وتدلل على تغيرات غير محمودة طرأت على مجتمع وصف طوال تاريخه البعيد والقريب أنه يحمل للدين في قلبه مكانة حتى ولو شكلية، وحافظ على بيئته في أغلب الأوقات من الانحراف الزائد، لكن تيار التدني كان أقوى وأشد في إفراز نوعية راقصات بلا مؤهلات فنية أو عقلية، فمن أسماء كنعيمة عاكف وتحية كاريوكا وسامية جمال وغيرهن ممن يظهر في حديثهن نبرة ثقافة واطلاع وفهم، إلى أسماء مجرد أن تتذكرها تشعر بالبلاهة وارتجاج الدهون واللحم الذي يظهر على الشاشات ويشاهده السكارى في الملاهي الليلية دون تمييز إن كانت من ترقص مزة أم معزة.

كتاب الدراما المعاصرون لم يتخلوا عن فكرة الراقصة الشريفة الأبية الأفضل في مبدئها من آكلي حقوق اليتامى والمرابين وشهود الزور، ولكن في نفس السيناريو إلى جانب الراقصة التي سقطت في عالم الملاهي الليلية لسبب سيقحمه المؤلف في أحداث المسلسل بطريقة أو بأخرى ليلقي عليها تعويذة البراءة، يظهر سائق التوك توك أو الميكروباص من عينة البلطجى المدمن المتحرش الزاني المغتصب، وعدد من صفات الأبالسة ما تشاء، وهنا يرتكب السيد الكاتب المثقف جدا خطيئة بداعي نقل الواقع مع خلطه ببعض الأفكار الجدلية المتوغلة في عقله، وهي تشويه مهنة أساسها شريف وهي السائق التي نقر بتلوثها بسبب عوامل وظروف مختلفة لا مجال لذكرها، مقابل إنصاف مهنة أخرى مهمتها إثارة الغرائز في المقام الأول خاصة مع الإبداعات الشيطانية الأخيرة في شكل بدلات الرقص ودخولنا عصر النفخ والتكبير والحشو والسنفرة، وتحول الرقص الشرقي بفضل الأفكار المدسوسة إلى مهنة لها مبررها الاجتماعي والنفسي والفلسفي لدى كتاب الدراما والسينما.

لا يمكن اعتبار الوسط الفني في أغلبه وسطا سويا يعبر عن المجتمع بشكل أو بآخر أو أنه انعكاس للمجتمع وسلوكياته ولو كان فالأفضل لهذا الوسط أن يكون نخبة للتغيير والترقي لكنه أراد أن يكون نخبة للتدني والتردي، ولا أرغب أن يبدو حديثي كخطبة قديمة ومكررة لعبد الحميد كشك، لكن الراقصة تشعر بالذنب مثلنا جميعا وتفكر في النهاية والتوبة، وهو سهم أصاب قلوب تلميذتا أستاذة الاستعراض الكبرى بديعة مصابني، تحية كاريوكا بكل جبروتها الفني والشخصي وسامية جمال المرأة التي ملكت قلب ووجدان رشدي أباظة الرجل الذي ما استعصى عليه قلب امرأة، ولا يخفى على كل من عاصر نهايات الثمانينيات والتسعينيات توبة تحية كاريوكا وقصص استعانتها بالشيخ متولي الشعراوي أكثر من مرة لتصحح لنفسها طريق النهاية ولا قصة اعتزال سامية جمال وأدائها فريضة الحج والاحتجاب وزيارة مدفنها بشكل دوري حتى ارتفعت روحها لبارئها.

وعلى ذكر توبة كاريوكا أدعوك لأن تشاهد الدقائق التالية من فيديو منتشر على يوتيوب تحت عنوان تحية كاريوكا والمزاج العالي، وهو ملخص لحفل يحضره نجوم الفن في فترة الثمانينيات ويؤدي خلاله مونولوجست مغمور نكته عن جنازة راقصة شيعتها تلميذاتها بالصاجات وهز الوسط وأريدك أن تلتفت بتركيز إلى رد فعل تحية كاريوكا التي أطلقت ضحكات مرتفعة مع نظرة داخلها ألم كبير قاومته بمواصلة الضحك بصورة مبالغة، وهو ما لفت نظر مخرج الحفل الذي ركز على وجهها وتعبيراتها على ما يقال، ورغم سخافة النكتة لكن ضحكاتها العالية دفعت من حولها للضحك حتى البكاء وربما أرادت أن ترتج القاعة بالسخرية حتى لا يلتفت لها أحد باللوم كشعور من على رأسه بطحة، وتحقق لها ذلك بالفعل وتملك الضحك من الجميع دون إدراك ما يجول في قلب تحية من ألم خوفا من المشهد الذي تجسد أمامها على يد منولوجست سخيف.
الجريدة الرسمية