رئيس التحرير
عصام كامل

على حزين يكتب: المسحراتي (قصة قصيرة) (2 – 2)





المسحراتي مهنة توشك أن تنقرض وتختفي معالمها وتتلاشى وتتوه في التاريخ 

يخبرنا التاريخ: أنها أول ما بدأت في مصر.. وأن من نادي بالتسحير "عنبسة بن إسحاق سنة 228هـ"، وكان يذهب ماشيًا من الفسطاط إلى جامع "عمرو بن العاص"، ينادي بالسحور، كما أن أول من أيقظ النّاس على الطّبلة هم أهل مصر الكرام.

وكان المسحراتية يطوفون شوارع المدينة والقرية يرددون الأناشيد الدينية.. وينادون الناس ليستيقظوا، ويوحدوا الله.. ويضربون على الطار، ضربات متوالية حتى يسمعهم النائمون، فيهبوا من نومهم لتناول السحور.. أما أهل البلاد العربية كاليمن والمغرب فقد كانوا يدقون الأبواب بالنبابيت، وأهل الشّام كانوا يطوفون على الأبواب ويعزفون على العيدان والطنابير وينشدون أناشيد خاصة برمضان.. والمسحراتي صورة لا يكتمل شهر رمضان إلا بها.. كما أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعاداتنا وتقاليدنا الشعبية الجميلة. 

وكان المسحراتية في مصر ينادون على الناس.. كما يفعل عم "عيد" تمامًا بتمام. 

ــ اصحَ يا نايم.. وحّد الدّايم.. رمضان كريم 

يضرب بطبلته.. مع صوته العذب الجميل.. وهو يردد أجمل الكلمات.. مما يضفي على المكان سحرًا وجمالًا خاصًا.. وقديمًا كان المسحراتي لا يأخذ أجره ألا في أول أيام العيد.. كنت وأنا صغير أراه يمر على البيوت، مع بيتنا الكبير بيتًا بيتًا، ماشيًا، أو راكبًا حماره، ومعه خُرْج كبير، وطبلته المعهودة.. ينادي على صاحب الدار، وهو يوالي الضّرب على طبلته.. فيهب الناس بالعطايا، والهدايا والكعك، والحلوى، وربما شعير، أو فول سوداني.. أو تمر.. إلخ.. وهم يبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد.. يذكر التاريخ أن الدولة الفاطمية عينوا رجلا لهذه المهمة وأصبح يعرف بالمسحراتي، كان يدق على الأبواب.. وهو ينادي: "يا أهل مصر.. يا أهل الله؛ قوموا تسحروا"... 

ثم مع الزمن بدأت تقال عبارات أخرى منها: 

ــ السحور يا عباد الله.. واصحى يا نايم.. وحد الدايم.

وعم عيد، هو وأبوه، أخذها هواية ولم يطلب الأجر والثواب من أحد.. يفعلها حسبةً الله تعالى.. فقط حب الناس هو رأس مالهما.. وما يتقاضاه مقابل مهمته، أو قل هوايته الجميلة.. 

ها هو يقترب من البيت.. يضرب على طبلته الصغيرة التي ورثها عن أبيه.. ينادي على من في الدار ليتسحروا، وهو يعلم أنهم يقظون.. الجيران تحبه وتحب مجيئه الذي يشعرهم بجو رمضان في الماضي الجميل.. أسمعه ينادي على أبي بصوت عالٍ، وفي نفس الوقت ينادي عليَّ بصوت خافت.. ويداعبني.. فأضحك مغتبطًا.. سعيدًا.. 

ــ يا شيخ على.. يا شيخ على.
وكنتُ أرد عليه، مغتبطًا لفعلته هذه، وأنا أسير لجواره، وأضحك، وأنا سعيد مسرور لأنه ينادي عليَّ وأنا أسير بجواره، وهكذا كان يفعل مع أصدقائي أيضًا.. 

ــ يا شيخ على.. يا شيخ على. 

أنتبه لصوته الذي يأتيني هذه المرة بقوة.. انظر إليه من الشباك المطل على الشارع.. وقبل أن أرد عليه يجيبه أولادي الصغار.. فهم ينتظرونه كباقي الأولاد في الشارع ليسيروا خلفه مع الأطفال. 

ــ أيوه يا عم عيد.. اتفضل. 

ــ اصحى يا شيخ على. 

ــ اتفضل اتسحر معانا. 

ــ شكرا يا غالي.. سالم لي على أبوك الغالي. 

أعطيه صوتي، أرد عليه.. وأنا أدعوه، وألح عليه بأن يتفضل، وأن يتسحر معنا فيشكرني وهو يداعب الأولاد الذين يحبونه، كما كان يفعل معي وأنا صغير.. وهو يقول لهم: 

ــ ربنا يخلي.. ربنا يخلي.. 

أترحم على أبيه.. ذلك الرجل الصالح.. فيترحم هو أيضًا على أبي.. وهو يتجاوز بيتنا الذي لم يزل مكانه.. أراه هو يسير، والأولاد تصيح وتردد خلفه.. ومنهم من يغني... 

ــ وحوي يا وحوي أيوحا.. وكمان وحوي أيوحا.. 

بعد قليل سيفرغ.. ثم يعود إلى البيت.. ويتفرق الأطفال كما كنا نحن في الماضي وينفضوا من حوله.. ثم تجده في المسجد.. ليرفع الأذان لصلاة الفجر، بصوته العذب الندي.. وربما رأيته يصلي بالناس إمامًا.. كما كان يفعل أبيه من قبل.. كما أن أهل البلد لا يفطرون في رمضان.. إلا إذا سمعوا صوته عند المغرب بالأذان.
.........................................................................


في هذا العام تغيب "عم عيد" عن دربنا.. فلم يأتِ كما كان يأتي.. ينادي علينا.. كل واحد باسمه.. ليسحرنا.. ولم يأتِ الأولاد الصغار.. الذين يتجمعون حوله كالفراشات الصغيرة الملونة.. ومعهم فوانيس رمضان.. سألت عنه، وأولادي كذلك..؟!

فعلمت أنه مريض، ولا يقوى على المجيء إلينا هذا العام.. فحزنت من أجله، ودعوت الله له أن يشفيه.. وعزمت في نفسي أن أزوره إن سنحت لي الظروف.. وأسأل عنه فهو حبيبي.. إلا أن شعورًا ما راح ينغصني، وشعرت بأن رمضان هذا العام ينقصه شيء!! رمضان بدونه، في هذا العام ليس له طعم، وينقصه شيء كبير.. إنه عم "عيد" المسحراتي..



الجريدة الرسمية