رئيس التحرير
عصام كامل

الشيخ أحمد تركي يكتب: دور الأم في تنشئة العلماء

احمد تركي
احمد تركي

هو أعظم عملٍ يمكن للأم القيام به، وكيف لا وقد اجتمع لها من وسائل تربية الأبناء وقضاء أغلب الأوقات معهم ما لم يجتمع للأب؟!

فالأم أقرب الناس لقلوب أبنائها، وأحرص الناس على منفعتهم، ولو جعلت القضية قضيتها، والمهمة مهمتها لخرج لنا جيل نفاخر به العالمين، فالأم مدرسة حقيقية، شريطة أن تضع مصالح الأمة وهموم المسلمين نصب عينها.


وصدق حافظ إبراهيم، إذ يقول:

الأُمُّ مَــدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها
أَعدَدتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّـدَهُ الحَيا
بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّمـا إيــراقِ

الأُمُّ أُســتاذُ الأَساتِذَةِ الألى
شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفـــاقِ

وجسَّد ذلك معروف الرصافي؛ فقال:

ولم أرَ للخلائق من مَحَـلّ
ويهذّبها كحِضــــن الأمهات

فحضن الأم مدرسة تسامت
بتربيـة البنــين أو البنات

وأخلاق الوليد تُقاس حسنًا
بأخلاق النســــاء الوالدات

(1) أم زيد بن ثابت:

وليت الأمهات يكتشفن مواهب أبنائهن قبل أن تمر السنوات، وتضيع فيما لا فائدة فيه، ولنا عبرة في النَّوَار بنت مالك، رضي الله عنها، أم زيد بن ثابت، رضي الله عنه.

لقد كان زيد بن ثابت، رضي الله عنه، طفلًا صغيرًا، واشتاقت نفسه للجهاد وهو بعدُ ابن ثلاثة عشر عامًا، وحين حاول أن يخرج للحرب في بدر، ردَّه رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، بسبب صغر سنه، وعندها رجع إلى البيت يبكي بسبب عدم مشاركته المسلمين في الجهاد، ولما رأته أمه على هذه الحالة لم تطيب خاطره بكلمات وكفى، فإنها كانت تدرك بعمق مواهبه وإمكاناته؛ فلفتت نظره إليها، وقالت له: إن لم يكن باستطاعتك أن تجاهد بالسيف والدرع كما يفعل المجاهدون في المعركة، فباستطاعتك أن تخدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والإسلام بالعلم الذي عندك!!

لقد كانت القراءة والكتابة مَزِية لدى زيد، رضي الله عنه، فوق أنه يحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم.. وهذا مجال يتفوق فيه على غيره، وهكذا استطاعت الأم الواعية الفاهمة أن تفتح لصغيرها بابًا آخر، بعد ما أُغلق أمامه باب الجهاد مؤقتًا.

وحين ذهبت به إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعرضت عليه إمكانات ولدها، وما يمتلكه في غير مجال الجهاد والحرب، اختبره صلى الله عليه وسلم، وسمع منه، ولما علم قدراته وطاقاته، قال له: "اذهب فتعلَّم لغة اليهود؛ فإني - والله- ما آمنهم على كتابي".

فذهب زيد وتعلم لغة اليهود في أقل من سبع عشرة ليلة!! ولعله كان عنده بعض الخلفية عنها، واستطاع خلال الأيام السبعة عشر أن يُتم تعلمها وإتقانها.

وبعد ذلك جعله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من كَتَبَة الوحي، وكفاه شرفًا بذلك، حتى إنه بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أوكل إليه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، مهمة جمع القرآن، وكان عمره وقتئِذٍ ثلاثًا وعشرين سنة!!

فلكم نبغ ذلك الطفل!! ولكم أفاد الأمة الإسلامية!! وكان ذلك ثمرة أمٍّ مسلمة استطاعت أن تهب الأمة أعظم ثروة، فتُرى إذن: كم يكون أجرها ومكافأتها عند الله!!

(2) أم معاوية بن أبي سفيان:

وقبل أمِّ زيد بن ثابت -والأمثلة جد كثيرة- كانت هند بنت عتبة أم الصحابي والخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. فقد قيل لها ومعاوية ما زال طفلا صغيرًا: "إن عاش معاوية ساد قومه"، فردَّت هي من فورها وكلها ثقة وحزم: "ثكِلْتُه إن لم يسُدْ إلا قومه" !!

وقد كان لها ما عزمت وأرادت، حيث صار معاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين، ومؤسس الدولة الأموية، صاحبة التاريخ العظيم والمآثر الجليلة في الإسلام.

(3) أم ربيعة الرأي:

وغير أُولاء الأمهات الجليلات، كانت هناك أيضًا أم "ربيعة الرأي"، شيخ الإمام مالك، حيث خرج زوجها فرُّوخ في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وترك ربيعة حملًا في بطنها، لتقوم هي على تنشئته وتربيته وتعليمه، وقد ترك عندها ثلاثين ألف دينار، ولما رجع بعد سبعٍ وعشرين سنة، دخل مسجد المدينة، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، وإذا فيها مالك والحسن وإشراف أهل المدينة، ولما سأل عن صاحب هذه الحلقة أجابوه بأنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ابنه)!!

فرجع إلى منزله وقال لزوجته وأم ولده: "لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها"، فقالت له: فأيهما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار، أم هذا الذي هو فيه؟!

فقال: لا - والله - بل هذا. فقالت: أنفقت المال كله عليه. قال: فوالله ما ضيَّعتيه !!

(4) أم سفيان الثوري:

وإنَّا لَنَعجَبُ حين نعلم أنَّ سفيان الثوري - رحمه الله - فقيه العرب ومحدثهم، وأمير المؤمنين في الحديث، والذي قال فيه زائدة: "الثوري سيد المسلمين"، وقال فيه الأوزاعي: "لم يبقَ من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان".. كان وراءه أمٌّ صالحة، تكفلت بتربيته والإنفاق عليه، فكان هو ثمرتها!!

يصوِّر ذلك هو بنفسه فيقول: "لما أردت أن أطلب العلم؛ قُلتُ: يا ربِّ، لابد لي من معيشة. ورأيت العلم يَدْرُس (أي: يذهب ويندثر)؛ فقلت: أُفرِّغ نفسي في طلبه، قال: وسألتُ الله الكفاية"، يعني أن يكفيه أمر الرزق، فكان من كفاية الله له في ذلك الشأن أن قيَّض له أمه التي قالت له: "يا بُنَيَّ، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي"!

فكانت رحمها الله تعمل بالغزل، وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلُّم؛ ليتفرغ هو للعلم، بل والأكثر من ذلك أنها كانت كثيرًا ما تتخوَّله بالموعظة والنصيحة لتحضَّه على تحصيل العلم، فكان مما قالته له ذات مرة: "يا بني، إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تَرَ ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك" !!

وهكذا كانت أمه فكان هو!! تَبوَّأ السيادة في العلم والإمامة في الدين!!
الجريدة الرسمية