رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

خمسة عشر عاما إلا يوم!


تجول المصرفى الثرى ذهابًا وإيابًا داخل غرفته الفسيحة التي ضاقت بنفسه وروحه حاملًا عبئًا من الهموم والذكريات، فهنا يتذكر ذلك اللقاء الذي مر عليه خمسة عشر عامًا حينما كان يجلس مع مجموعة من ندمائه يتحدثون حول عقوبة الإعدام ومدى أخلاقيتها، وهل الأفضل أن تستبدل بالسجن مدى الحياة أم لا؟


احتدم النقاش بين جميع الموجودين ما بين مؤيد ومعارض للفكرة.

فهناك من يرى أن الإعدام لا يتوافق مع المسيحية التي تقدس الروح، فكيف يأتي من يسلبها بدعوى أخذ الحقوق، وهناك من يرى أن السجن مدى الحياة هو العقوبة الأقل إيلامًا، وهنا صاح المليونير العجوز أن في رأيه أن تلك العقوبتين هما وجهان لعملة واحدة، وهي سلب الروح من الشخص إما عن طريق قتله أو عن طريق حبسه عن جميع ملذات الحياة.

الرهان:
وفي ظل تلك المشادة الكلامية يظهر فجأة ذلك الشاب ذو الخامسة والعشرين عامًا معلنا أنه يفضل الحبس طوال حياته على الموت، فالحبس مع الحياة أفضل لديه من الموت نفسه، وهنا يتحداه العجوز مراهنا أن يدفع مليونين من الروبيات.. ويصمت الجميع فيزايد الشاب على حبسه أي زيادة المدة إلى خمسة عشر عامًا مقابل مليونين من أمواله، ووسط ذهول الجميع وافق المليونير العجوز على الرهان والتحدي، معلنًا أنه سوف يتم وضع شروط لذلك الرهان.

حاول الجميع إثناء الشاب عن قراره، حتى العجوز نفسه ظل يذكره أنه ما زال في ريعان شبابه، وأن الحبس سوف يسلبه جل عمره وفرصه المستقبلية، إلا أن الشاب أصر ولم يتراجع.. كان العجوز متأكدًا أنه مجرد اندفاع من الشاب ريثما يعود بعده إلى صوابه، ومع ذلك بدأ في وضع الشروط الخاص باعتقال الشاب.

شروط الرهان :
في الرابع عشر من نوفمبر عام 1870م، في الساعة الحادية عشرة وضع المليونير العجوز شروط الرهان، والتي بمقتضاها يمضي الشاب خمسة عشرًا عامًا من عمره تحت الرقابة الجبرية في حديقة المليونير الخاصة بالقصر، على ألا يخرج من باب الحجرة نهائيًا لرؤية الناس، أو حتى الحديث معهم، وكذلك عدم استلامه للرسائل أو الصحف.

في المقابل كان مسموحا للسجين الشاب نافذة صغيرة مطلة على حديقة المنزل، تسمح بمرور بعض نسمات الهواء وكذلك آلته الموسيقية، وبعض الكتب التي قد تعينه على عزلته، ومنحه الحق في اقتناء الخمر والتدخين، وكتابة الرسائل، كما نص الرهان أيضا على عدم خروج الشاب نهائيًا حتى الرابع عشر من نوفمبر من العام 1885م في تمام الساعة الحادية عشرة، بعدها يصبح الشاب حرًا يمتلك المليونين، لكن قبل ذلك ولو بدقيقة واحدة يخسر الشاب رهانه.

سنوات العزلة:
بدأ الشاب حياته داخل تلك الغرفة المغلقة في جو قاتم كئيب حاول التغلب عليه بالعزف على البيانو، مع مرور الوقت بدأ الشاب في طلب الكتب أكثر حتى يؤنس وحدته، حتى أنه هجر الخمر لفترة، وعكف على التهام الكتاب تلو الآخر وكأنه في سباق دائم مع التعلم، بعد فترة عاد إلى شرب الخمر مرة أخرى، وكان يمضي يومه خالي الذهن ينام ويشرب الخمر فقط في حالة طويلة من اليأس.

لم تطل هذه الفترة حتى عاد إلى سابق عهده في القراءة والتعلم، حتى أنه أتقن ست لغات عالمية، بجانب قراءته إلى ما يقرب إلى ستمائة كتاب في أول أربع أعوام، أكمل السجين بعدها مشواره ورحلته الطويلة مع التعلم، والتي كان يتابعها ذلك العجوز عن كثب وهو غير مصدق على إصرار ذلك الشاب عن حريته مقابل مليونين من الجنيهات.

خطة للتخلص من الرهان :
مرت خمسة عشر عامًا بالتمام والكمال واليوم هو اليوم قبل الأخير لانتهاء الرهان، وغدًا سوف يصبح الشاب السجين مليونيرًا، كانت تلك الكلمات تدور بخلد العجوز الذي فقد الكثير من أمواله خلال تلك الأعوام في المقامرة على عكس الشاب الذي قضاها بين كتب العلوم والفنون، أحس العجوز بغصة في حلقه، فكيف يدفع بالمليونين لذلك الشاب وهو لا يملك إلا إياهما تقريبًا.

فكر العجوز قليلًا ثم واتته فكرة شيطانية فكيف لو تخلص من الشاب وقتله وادعى أن الحارس هو من فعل ذلك.. بعدها يتخلص من ذلك الرهان اللعين، وبالفعل هرول إلى غرفة السجين وفتحها لأول مرة منذ خمسة عشر عامًا، داخل تلك العتمة والظلام عثر على جسد نحيل هيكل عظمي في صورة إنسان يجلس على طاولة ويمسك كتابًا وجد بجانبه رسالة وما أن أمسكها حتى اكتشف أنها موجهة له.

أشترى حريتى من جديد:
كتب الشاب عن رحلته التي رأى فيها الجنة وكيف عاش في تلك الحرية المطلقة بين الكتب بعيدًا عن الزيف وعن تلك الدنيا المليئة بالشهوات، فهو يرى أن مكسبه الحقيقي كانت تلك سنوات العزلة، وأنه لم يعد محتاجًا إلى تلك النقود، وأنه سوف يهرب فقط حتى يتخلص من ذلك الرهان لأن مكسبه الحقيقي وسعادته تكمن في حريته الداخلية فنفسه ليست أسيرة للشهوات كسابق عهدها.

بكى العجوز قليلًا ثم قبل رأس الشاب وانصرف، وفي الصباح أخبره الحارس أن السجين قد فر قبل الموعد المحدد، تظاهر العجوز بالمفاجأة إلا أنه كان يعلم جيدًا أنه هو السجين الحقيقي وليس ذلك الشاب الذي عرف المعنى الحقيقى لوجوده، وهو الحرية!

تنتهى هنا قصة "الرهان" الشهيرة للمبدع الروسي "أنتونى تشيخوف"، ولكن لا تنتهى قصة الرهان على الحرية، فحبس الحرية لسنوات مهما صاحبه من طعام وشراب ومتع وحفلات لا يساوى ثمن دقيقة حرية، وفى دول أمريكا اللاتينية، كان هناك مستبدون كثر وفروا الطعام والشراب بل والمواصلات بشكل شبه مجانى لشعوبهم لسنوات طوال، ولكنهم حبسوهم في معتقلات الضيق الفكري وغلق الأفواه، فكانت نهايتهم مفجعة وغير متوقعة.. الحرية تهزم كل ما دونها.
Fotuheng@gmail.com.
Advertisements
الجريدة الرسمية